fbpx
هلوسات “وحدويّة” فاتها القطار!

ثم يأتي لك من يقول بأن الحرب، او الحيثيات التي سوغت أسبابها ودوافعها، ليست شماليّةً جنوبيةً.
لا أريد أن أقول بأن “المشكلة” من اساسها، وبكل أبعادها وتجالياتها وتداعياتها، خصوصاً الاستراتيجية منها، لا تخرج عن إطار نزاع متعدد الأبعاد والمستويات بين جنوبٍ وشمالٍ.

صحيح ان أس الصراع يتجاوز هذ التحديد، أي باعتباره حالة أستبداد متأصلة ومتجذرة جعلت “السلطة” بوصفها أداة خارقة للسيطرة والهيمنة غاية لا بد منها، لكن عندما يتم تناول الجنوب وقضيته فسرعان ما تنقسم وجهات النظر، وتتوزع بجلاءٍ سافر بين ضفتين لا ثالث لهما، وليس هنالك أدنى حرج في أن تقفز أيٌّ من المواقف او وجهات النظر في هذ السياق تحديداً إلى سطح أي عربة سلطة متسخة يقودها “ثورٌ أهوجٌ”!
إلا إذا كان هنالك تفسيرٌ آخرٌ لكل هذه الهجمات الشرسة، التي تُشن ضداً على الجنوب، أو بالاصح على حقه بحيازة وتمييز مشروعه السياسي، وعلى كافة الجبهات الممكنة، ويتوحّد في إطارها القومي والاشتراكي والإسلامي والإصلاحي والحداثي المستقل والمتخلف المستقل والعسكري والقبلي والمثقف وإلى ما هنالك، في وقتٍ واحدٍ، وعلى قلب رجلٍ واحدٍ. وللفعل “يتوحد” هنا دلالة استثنائية، يُعبّر في مجمله عن نزوعٍ جهويٍّ خالصٍ وغائرٍ في عمقه، ولاعلاقة له بالمناسبة باللافتات العريضة التي تُخاض تحت مسوغاتها الأثيرة كل هذه الهجمات، بل توظف “بلئمٍ” شديدٍ للنيل من الحق المشروع.

ففي اليمن، تبقى مسائل كالعدالة وسيادة القانون والأمن والاستقرار وبناء دولة حديثة ليس في حدود المشروع النضالي الثانوي فحسب، ولكن أكاد أن أقول مجرد أمنيات،وفي بعض الحالات “أوهام”، ثانوية ومتخبطة!!!
أتذكر جيداً كيف قامت دنيا (النخب)، بجميع صنوفها واشكالها وانتماءاتها، ولم تقعد ضداً على ” دعوة” الحزب الاشتراكي وبعض التيارات الجنوبية إلى اعتماد “المناصفة” في شغر الوظائف العامة لمدة تتراوح بين ٤ -٨ سنوات فقط وكجزءٍ من تدابير وإجراءات العدالة الانتقاليّة في سبيل معالجة أثار حرب ٩٤ المدمرة، وهي ليست اجراءات جهوية على الإطلاق طالما كانت المشكلة وأثار الحرب مقسمة بين”شمال” و”جنوب” بشكل واضحٍ وجليٍّ، والفرق شاسع بين أثار أو تبعات “الحرب” وبين سلبيات النظام التي تحاول النُخب ” التوحيد” بينهما في كل مناسبة ما أمكن إلى ذلك سبيلا، فضلاً عن ان مثل هذه التدابير صارت تدابير عالمية وجزءاً أساسياً من تدابير العدالة والانتقال لمعالجة بؤر الصراع على طول وعرض عالمنا المعاصر، وفي الحالات التي طُبقت على نحوٍ جيدٍ، كانت النتائج مذهلة. على ان أشقائنا في صنعاء وضواحيها ثأرت ثائرتهم على هذه الدعوة ولم يمنحوها حتى الشرف في أن ترتقي لأن تكون مجرد “حبر على ورق”، وشرعوا في التنظير لـ” العدالة”، للمرة الأولى والأخيرة، والتأصيل لها، لدرجة ان باحثاً رصينا كجون رولز، بل هو مُنظر العدالة الابرز، سيُذهل حتماً، وسيجد فيها الكثير لتلافي الثغرات في نظريته عن العدالة و”العدالة كإنصاف”!

المهم أن هذا اصبح الآن من الماضي، الماضي القريب البعيد.
لكن ماذا لو سأل المرء الآن، والآن فقط، سؤالاً بسيطاً على شاكلة: إذا كان كل المنخرطين في التنظير للحداثة والتبشير بها في صنعاء، وربما التبشير بما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، مجتمعين في تآلفهم وتعاضدهم وتماسكهم كالبنيان، قد عجزوا عن إغاثة إخواننا في تعز التي تُذبح من الوريد إلى الوريد بشربة ماء، فكيف يُمكن في ظل هذه الانزياحات الكبيرة شديدة التأثير والتغيير التفكير بما هو أبعد، بما صار بعيداً جداً سياسياً واجتماعياً وعسكرياً ووجدانيّاً؟!

منطقياً، وفي جوف هذه الكثبان المتحركة، لا مناص من الاقرار بأن الأفق قد صار ضيقاً جداً، والمساحة التي يُسمح للهم أن يجول فيها محدودة للغاية قد لا تتعدى أفق رؤية العين. ففي كل مكان باتت الناس ترزح تحت وطأة مشاكل قائمة كبيرة، وأخرى كامنة تنتظر ساعة الانبعاث، وجميعها تبدو كظلمات بعضها فوق بعض، ولو قدر لنا الاستعانة بآلاف الخبيرات والخبراء ( حقيقيين وليس على شاكلة “زبانية بن عمر”) لواجهتم معوقات كبيرة وجسيمة في طريق الوصول إلى وضع حلول أوليّة، إسعافية عاجلة فحسب، أما التفكير بحلول استراتيجية في ظل هذه الظروف فتلك مسألة بعيدة المنال، فكيف بعقولٍ مرهقةٍ منهكةٍ ضيقة الأفق فاقدة البصيرة أن تقوم بمثل هذه المهمة الفائقة في عسرها وتعقيدها.

لكن كم نحتاج من الوقت كي نُدّرِك عمق هذه التحولات الجذريّة؟!
أليس من الأحرى، والحال هكذا، أن يفكر كل منّا بـ”بابوره” وكما يقول المثل الشعبي الدال، الانشغال باصلاحه عوضاً عن هكذا شطحاتٍ وأوهام صارت أبعد بكثير من “سهيل اليماني”.
وأما آن للجميع إدراك ان ” الوحدة”، او “الوضع القائم” كما أسميه، ولا اجد سبباً لاصرار البعض على إدراج هذه الحقبة الزمنية والعلاقات الكارثية التي تشكلت في ظلها في أرشيف “الوحدة” الآني منه أو التاريخي، هذا الوضع بدون ادنى شك أنتهى إلى آبد الأبدين، ولن يعود مهما كانت شكل وحجم الظروف والتطورات والتعقيدات القادمة. فهذه العلاقة كانت تعمل في الجنوب في الاتجاه المعاكس، كانت تقوم بدأب على إلغاء أي شذرات أو رذاذ وحدوي ومنذ زمن بعيد جداً.

يبقى القول بأن التفكير بالكيفية المُثلى لتبادل المصالح مستقبلاً وبعد “عبور المضيق” او “المضائق” بالأصح هي السبيل الوحيد المتبقي أمامنا لإيجاد نوع معقول من العلاقة تحتمها بالطبع طبيعة “التجاور” الجغرافي وما يفرضه من مصالح وتبعات، غير ذلك ستكون مجرد اوهام تحاول بسذاجةٍ ان تؤثث واقعاً ينزاح كل يوم الآلاف السنين الضوئية!