fbpx
أم الشهيد (الهيثمي) لا وقت لديها للبكاء

بقلم / أحمد الربيزي

تتزاحم عندي هواجس كثيرة، عند شروعي الكتابة، في لحظات أود لو أستطع ان أكتب عن كل شيئاً جرى خلال أشهر العدوان الذي تعرضت له مدن الجنوب الباسلة .. لو أكتب عن كل الشهداء، و الجرحى وأسرد بطولاتهم وهم يدافعون عن الأرض والعرض،  أود لو بأمكاني ان إعيد كتابة الملاحم البطولية التي صنعوها وكتبوها بدمائهم وأعلقها على جدران كل شوارع مدينتنا المغدور بها (عدن)، ليعلم ابنائنا ان هؤلاء الشهداء ذهبوا الى القتال المقدس وطنياً ودينياً، ذهبوا وهم ينشدون رضى الله ورضى أهاليهم وأصدقائهم ينشدون الوطن من خلال رصاصاتهم المعدودة، وامكانياتهم المحدودة، يسبقهم إيمانهم وواجبهم وهم يخوضون أول معركة في تاريخ الجنوب يتفق غالبية شعب الجنوب على قدسية خوضها دفاعاً عن الدين والأرض والعرضً والكرامة .

أتمنى لو أني استطيع ان اذهب الى كل بيت ومجلس لأسمع حكاياتهم وأرويها وأدرّسها لأجيالنا ليعلموا كيف صنع هؤلاء الأبطال (النصر المجتمعي) والمتمثل بتماسك الحاضنة المجتمعية التي أوجدت وساعدت ودافعت عن (المقاومة) التي صنعت (النصر الميداني) بدورها، ليس من خلال اشتراك الشرائح الاجتماعية فحسب، بل ومن خلال مشاركة الفئات الجنسية والعمرية في صناعة هذا النصر العظيم.

وحتى لا أطيل عنكم .. دعونا نتوقف اليوم عند عظمة أمهات لهن مواقف شجاعة يجب ان تحكى بل وتكتب بماء الذهب ولا تقل شجاعتهن عن أولادهن الشهداء. وهن في وجه التحدي حيث لا وقت لديهن للنواح والبكاء، وجهاً لوجه أمام أولادهن لحظة أستشهادهم أو سقوطهم جرحى أمامهن، في أركان حوافيهم الصامدة، وهن كثير ممن وصلتني قصصهن وأحببت ان أروي لكم واحدة من هذه البطولات.
في خورمكسر الكثير يعرفون حكاية الأم التي خاطرت بحياتها لتخرج جثة ولدها الشهيد من خط النار الأول،  في أحدى أعنف المواجهات في حي السفارات في خورمكسر والذي سيطر عليه الغزاة، أنها حكاية أم الشهيد (ألهيثمي علي ألهيثمي) الذي استشهد برصاص قناصات الغزاة (الحوفاشيين) بعد عودته من مهمة إنقاذ زميله، الا ان رصاصات الغدر التي كانت تترصده منذو كان يقاتل مع زملاءه بجانب السفارة الروسية، في (كورنيش) ساحل أبين طالته بحقدها الدفين لترديه شهيدا في الحال ليس بعيدا عن داره بأحدى شوارع حي السفارات بخورمكسر.

كان (شارع الموت) – إن جاز التعبير – مسلك ناري لرصاصات (قناصة الموت) المتمركزين في البنايات العالية التي أحتلها الغزاة في راس الشارع بجانب السفارة الألمانية، فيما لا يستطيع أحداً من رجال المقاومة أو حتى من تبقى من رجال الحي الكهول والمسالمين الذين حاولوا لمرات عدة الخروج لإحضار جثة الشهيد (الهيثمي) الا ان رصاصات القنص التي تطلقها أيادي الغزاة المرتعشة كانت تخاف من أي حركة تظهر في الشارع،  حتى وان كان جانبها إنساني بحت، مثل أخراج جثة شهيد، الوقت يمضي ودقائقه كأنها دهراً في مقياس قلب الأم المكلومة التي تتشوق لأحتضان ولدها حتى وان صار كحجراً صماء، فلم يدم الحال طويلاً، فشمرت ساعدها وهوت نحو أبنها المسجي على الاسفلت، بغير أكتراث لكل المخاطر، يسبقها قلب الأم المدمي بالفاجعة، وحنين صدرها المتدفق بالأمومة، لتحمل جثة فلذة كبدها الشاب، الى بيتها بمساعدة جارتها الشجاعة التي أبت الا أن تشاركها الشرف الرفيع .

حينها لم يعد هناك متسعاً لدى عيون وقلب الأم المقهورة على أبنها  للبكاء، بقدر أهمية ما يجب عليها القيام به بيديها من حب وهي تغسل أطرافه وتمسح الدم المتجلط من جثته الهامدة، وفي أعظم حنان وأوفاء وأصدق حب قامت بإدهان أبنها الشهيد بزيت السمسم البلدي (الجلجل)، وحملت قطعة ورق مقوى كـ(مروحة) لتحركها فوق جثته حتى لا تصاب بالتعفن كما تعتقد، حتى حين أقتحموا الغزاة القتلة من مليشيات (الحوثي وعفاش) في الدقائق اللاحقه عتبة دارها بقوة لم تكن تشيح بوجهها الغاضب عنهم وهي تقرأ ما تيسر لها من (سورة يــس) وأمام رهبة المنظر لأماً (تمروح) جثة ولدها المسجي أمامها وهي تقرأ من (سورة يــس) يتراجع جنود الغزاة المحتلين رويداً رويدا برهبة وخوفاً ووجل.

وفيما أهتزت مشاعر الكل في منزل (آل الهيثمي) حزنا على الشهيد تجلد قلب الأم كمداً حين سألها أحد أحفادها الثلاثة عن إطالة نوم والده ؟! ..اذا لابد من دفن جثمانه فـ(إكرام الميت دفنه) وليس بيدها حيلة هي وزوجها وبضعة أولاد صغار من جيرانهم بعد ان نزح سكان خورمكسر وتركوا المدينة شبه خالية عدى من القتلة المحتلين، والذين رفضوا ان يسمحوا لهم بدفن أبنهم في (حوش) كلية الطب – المقبرة المؤقتة التي دفن فيها الكثير من شهداء خورمكسر – ليس لهم بداً ولا بيدهم حيلة من ان يقوموا بدفن أبنهم الشهيد (الهيثمي) في ركن من أركان (حوش) منزله، ليواروه الثرى وأي ثرى..! أنه ثرى بيته ثرى وطنه انه الطين الطيب الذي يحفظ الأمانة الثمينة التي تسلمتها من أيادي طيبة وطاهرة، وبعد أكثر من أربعة أشهر نُقل جثمانه الثرى الى مقبرة القطيع في كريتر، وقد تعجب الكثير ممن حضروا نقل جثة الشهيد الهيثمي علي الهيثمي حين وجدوها كما هي ولم تحلل ودون ان تطلع منها روائح تعفن، بل ان روائح الطيب تفوح منها – كما قالوا – فسبحان الله عز وجل.

 

ملاحظة : أحاول سرد حكايات لابطال حقيقيين استشهدوا دفاعا عن الأرض والعرض في بطولات حقيقية  وأسعى بكل ما أستطيع للحصول على القصة وأتمنى ان تساعدوني لأجد قصص من كل مناطق الجنوب مع أخذ ملاحظة انني لن أنشر أي حكاية الا بعد ان أتحرى عليها تماماً.