fbpx
الخطاب الذي شد اهتمام الجالية الجنوبية في شيكاغو (الحلقة الثالثة)

قصتي مع الجنرال

الدكتور محمد صالح فاضل الصلاحي
روتشستر – نيويورك

وبالعودة إلى موضوع أهدافي وتطلعاتي في أن اقتفي طريق آبائي وأجدادي في تعلم مهنة البِنَاء .. فرحت مع الأهل جميعاً بعودة الفدائي (عمران) سالماً وسررنا كثيراً للطريقة التي استقبله فيها رجال المنطقة بإطلاق العيارات النارية في الهواء ثم الزوامل والأهازيج الواصفة له كقائد وبطل من ابطال الكفاح المسلح من أجل الحرية. لكن فرحتي لم تستمر طويلاً إذ ما أن عرف بأنني اخترت مهنة البِنَاء بدلاً من مواصلة الدراسة حتى استشاط غضباً فاصدر توجيهاته لأعمامي بأن لا يصطحبوني للعمل معهم وأمرني بأن التحق بأول مدرسة ابتدائية في منطقة آلِ بن صلاح، كان هو صاحب فكرة بناءها، وقال لي:” عليك أن تفتخر بأن تقول أنني أدرس في مدرسة الشهيد بدر .. رفيق أبي”.

وكان هو أيضاً من أطلق عليها اسم رفيق خليته السرية الأولى الشهيد بدر الذي استشهد في جبهته.. جبهة المُطلّع – أبين في 14 مايو 68. ومن أجل أن يرغب في نفسي دخول المدرسة كان يحدثني عن رفيقه بفخر في أن ميادين الشرف قد جمعته بهذا الإنسان في الخلية السرية الأولى التي أشرف على تشكيلها رفيقهما سالمين ويمتزج حديثه بالحنين اليه والحزن لفراقه .. قال لي حتى يعلمني دروساً من الحياة ومن التاريخ ومن العلاقات السامية بين البشر:” ستمر الأعوام سريعاً يا بُني وستكبر وسيكون لك في كل مرحلة من مراحل حياتك رفاق، لكنك ستكتشف بأن أقوى علاقات الوفاء والإخلاص هي تلك التي تنشأ بين رفاق السلاح رفاق الهدف الواحد، لا سيما عندما تكون ورفاقك مشروع شهادة، أي عندما تكون التضحية بالروح هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف مشروع ومقدس كتحرير الأرض من الاستعمار فالنتيجة الحتمية لهذا الارتباط هي ارتقاء وتعمق العلاقات الرفاقية إلى الدرجة آلتي تشعر وكأنما هي مقدسة يباركها ويصونها ويعمقها رب العباد”.

تنهد بعمق ونظر إلي بصمت وفي وجهه مسحة من الكآبة. كان كما يبدو يعيد شيئا من شريط الذكريات الحديثة والمؤلمة، قال:” كنت حينها قائدا لجبهة المطلع -أبين .. كان رفيقي بدر لازال في عدن لكنه ادرك بأننا موعودون لمواجهة غير متكافئة مع الجيش العربي لذا لم يكن أمامه الاّ أن يركب البحر بأحد قوارب الصيد حتى وصل إلى أبين وهناك التحق بي قائلاً: لن أترك رفيق الكفاح المسلح يواجه الموت وحيداً .. لقد أحزنني أن جاء (بدر) ليناصرني ويحميني فاستشهد وحماني الله لأعيش بقية العمر حزينا على فقده وبقية الرفاق الذين استشهدوا سواء في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار أو ما بعدها .. كنت لا استوعب كل شيء يحدثني عنه، لكنني رغم صغر سني كنت ادرك أن إطلاقه اسم رفيقه الشهيد بدر على تلك المدرسة قد جسد شيئا من الوفاء لرفاق سنوات الجمر رفاق الكفاح المسلح من أجل اقدس القضايا وأشرفها وهي حرية الوطن وتحقيق إرادة وتطلعات الشعب في العيش حراً ابيا على ارضه ووطنه.

لقد اعترضت على قراره وانتحبت من البكاء .. لكنني اكتشفت وفي هذا السن المبكر بأن الجنرالات لا يكترثون بالدموع .. كل ما قاله لي:” عليك أن تفرح في انك ستلتحق في المدرسة التي ستبني الأساس المتين لمستقبلك وعليك أن تفتخر في أن تلتحق في مدرسة تحمل اسم شهيد الوطن والحرية”. وهكذا لم يكن امامي من خيار الاّ أن اكبت جماح رغباتي وتطلعاتي وأقدم الطاعة مستوعباً حقيقة أن الجنرالات لن يتراجعوا عن قراراتهم .. فالتحقت بمدرسة الشهيد بدر في منطقة آلِ بن صلاح.

وفي المدرسة أعجبت بالأسلوب التربوي الراقي الذي كان يتميز به استاذي الأول عِوَض قاسم وتنوع مواهبه واحببت زملائي والمدرسة وجو الدراسة، ولكن بعد ان اكملت العام الدراسي الأول، أمرني الجنرال بالانتقال إلى عدن قائلاً:” هناك ستتعلم اكثر فمدارس عدن عريقة وقد حرص الاستعمار أن يجعل مناهج التدريس في عدن تتقارب من حيث المستوى مع مناهج المدارس البريطانية، وستنهل من بحر العلم والثقافة والأدب والجغرافيا والتاريخ من خلال منهج شامل ومتنوع.. هنا في مدرسة الشهيد بدر لا يوجد الاّ مُدرسٌ واحد بسبب حداثتها، أما هناك فستجد مدرساً للعلوم وآخراً للمواد الأدبية وثالثاً للرياضيات ومدرساً متخصصاً بالتربية البدنية …الخ”.

تعلمت من تجربتي الأولى بأن لا جدوى من البكاء، لذا تحاشيت ذرف الدموع فالجنرالات لا يؤمنون الاَّ بقوانينهم العسكرية التي أساسها نفّذ ثم ناقش .. وهكذا نفذت الأوامر وانتقلت مع كل أفراد العائلة للاستقرار في عدن- خورمكسر والتحقت بمدرسة الجلاء، حتى اكملت الابتدائية والسنة الأولى متوسط (إعدادي).. احببت كل شيء في عدن مدرستي الأنيقة وموقعها المتميز حيث يداعبها بحر خليج عدن بمده وجزره، ومدينتي الجميلة عدن، وتنوع ولطف وحضارية وانسجام ساكني عدن وزملائي وابناء حارتي وأحببت اكثر بحر وشواطئ عدن … بالله من منكم لا يحب عدن ؟؟ لكن الجنرال يوماً فاجأني قائلاً:” عليك أن تحزم أمتعتك وتودع مدرسيك وزملائك وابناء حارتك وجيرانك سأنقلك للاستقرار والدراسة في أبين”.
كان وقع كلامه عليَّ كالصاعقة، لأنه يأمرني بأن أتخلى عن كل شيء جميل وخلاق في حياتي . أضاف دون أن يسمع رأيي:” هناك ستستمتع بالحياة لأنك ستسكن في السكن الطلابي مع زملائك ابناء العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة في المجتمع.. ستتعلم فنون الاعتماد على النفس في كل شيء، وستعلمك ظروف الحياة بعيداً عن اسرتك الثقة العميقة بالنفس وانتقاء أصدقاءك بعناية واقتدار وستجيد اُسلوب التنافس الشريف مع زملائك في الدراسة والرياضة والحياة .. هناك ستعرف كيف يعيش بسطاء المجتمع وشيئاً من اسرار حياتهم وستتعلم اشياءً لن تتعلمها هنا في هذا المنزلً الدافئ” .

لم أعرف حينها ماذا يقصد، بل لم أستوعب أو أقتنع بكل شيء صرَّح به، لكن هنا تجرأت أن أناقش الجنرال فقلت له:” يا سيادة الجنرال أي منافع تقصد، هنا أعيش في العاصمة عدن مدينة التنوع الإنساني والبحر والسحر والجمال وطيبة الإنسان في استيعاب وتقبل الآخر وتقبل الكل، وفي منزلي أجد حضن أمي الدافئ وألعب وأتسلى مع إخوتي وخواتي .. لا أعرف الكثير عن مدينتي جعار وزنجبار لكني يا حضرة الجنرال شبه متيقن بأنهما لن تكونا مثل مدينة عدن التي قد أسَرَت قلبي منذ ستة أعوام خلت .. هناك سأعيش وأتعامل مع أناس لا أعرفهم بعد .. هنا آكل خبز أمي النظيف والساخن.. أفصح لي ماذا سآكل هناك؟ .. هنا أنام على الفراش النظيف والأغطية المُعطرة وألبس الملابس النظيفة .. أصدقني القول يا سيادة الجنرال على أي فراش سأنام هناك؟ وبأي لحاف اتغطى ؟ ومن سيغسل ملابسي ويرفع من الارض ملابسي وكتبي المُتناثرة.. الخ؟”.

يتبع في الحلقة الرابعة.