fbpx
الخطاب الذي شد اهتمام الجاليه الجنوبيه في شيكاغو .. الحلقه الثانية .

الدكتور محمد صالح فاضل الصلاحي
روتشستر – نيويورك

قصتي مع الجنرال .
إن البيئة التي نعيش فيها والنَّاس الذي نتعامل ونتفاعل معهم يشكلان عوامل صقل سلوكياتنا واخلاقنا وتطلعاتنا في الحياه ..كل شخص منا له نموذجه الأعلى او نماذجه في الحياه يتأثر بهم و يقتفي آثارهم ويحاكي مآثرهم وسلوكياتهم .. من هذه النماذج نستلهم قواعد الجد والاجتهاد والصبر والمثابرة .. ومنهم من لا يكتفي في ان يكون دوره يقتصر على النموذج بل يتعداه ليأخذ بيدك ويصحح مسارك و يساعدك في اختيار الهدف ثم يقف الى جانبك في كل محطة من محطات حياتك .. انه شيء يبعث عن الطمأنينة في انهم يعيشون معك لحظات النجاح او الانكسار .. والبعض منهم يكتشفون حتى حالات سكونك وضعفك ويرفضون ظاهرة تفننك في خلق الاعذار بسبب المكان والزمان والظروف لأنهم يدركون بان ذلك هو بداية الانحراف عن المسار باتجاه الهدف .. لذا تجدهم يصوبون مسارك يؤازروك ويغرسون فيك الثقة والامل على الرغم من انك لاتفهم في لحظتها لماذا هم يفكرون بطريقة تخالف قناعاتك ..وهكذا الحال معي.

فانا انتمي الى قبيلة آل بن صلاح اي القبيلة التي اتقن ابنائها وأبدعوا في بِنَاء الحصون اليافعية المنيعة والجميلة التي تتناسق و تتمازج مع الطبيعة الجبلية في انسجام مُذهل اذ انهم يحرصون في ان يضيفون لمسات فنية تزيد من سحر وهيبة وشموخ المرتفعات الجبلية والهضاب ومدرجاتها الزراعية ..حتى انه من اجل التنسيق والانسجام والحفاظ على التراث والهوية والموروث تجدهم يستخدمون حصرياً في تشييد الحصون بما تكرمت به وقدمته لهم الطبيعة الجبلية والوعرة من الصخور الجرانيتية الصلبة والتراب وأشجار السدر ( العلب) وأشجار أخرى ذات ارتفاع وجذوع سميكة عُرفت شعبياً بـ(شجر التولق) .

اتذكر عندما كنت في السابعة من عمري كان نموذجي الأعلى هم شريحة البنائين المعماريين .. فابنا قبيلتي كما اسلفت كانوا اما رجال بنائين مهرة او فتيان يتعلمون مهنة البنّاء ولا يوجد بينهما خيار ثالث حتى تختار من تحاكي وتقلد في حياتك .. لذا كان حلمي هوا انه عندما يشتد ساعدي ان احمل المطرقة فأنحت واشكل الصخور الجرانيتية وابني الحصون الحجرية المُشرفة والشامخة والجميلة وأصبح يوماً مشهورا مثل عمومتي .. وفعلاً في سن السابعة بدأت أرافق عمي اتعلَّم ابجديات مهنة البنّاء وبشكل أساسي اعمل على سد الفرض الصغيرة التي قد تنشأ هنا وهناك بين القوالب الحجرية المتجانسة التي تشكل الواجهة الخارجية للبناء ..كانت الجدة ‘فاطمه الحصنية’ ام أبي الله يرحمها تمتلك الشخصية القوية وتعتبر الدينامو المحرك للأسرة تشجعني وتقول لي ‘انك تُسعدني كثيراً وتذكرني بوالدك عندما كان صغيراً.. مثلك كان يرافق عمه عاطف فكأنما انت تعيد الي تفاصيل طفولة واصرار والدك على الرغم من انه كان اكثر فتاكة وحركة وحيوية منك .. عليك ان تسمع كل أوامر وتوجيهات عمك قاسم مثلما كان والدك مطيعاً لعمه وبهذا ستكون بناءً مشهوراً مثل والدك).

بسبب تمييز ابنها (والدي) عليّا في وصفها لحركته وحيويته كنت أتعمد أغاظتها بقولي .. أوعدك بانني سأكون اكثر حركة وحيوية بل وشهرة من ابي وأكثر التزاماً بمهنتي فابنك قد تخلى عن مهنة ابائه وأجداده .. لقد ترك المطرقة وحمل بدلاً عنها البندقية .. وبدلاً من ان نفتخر فيه ونقول بناءً أصبحنا نقول عنه فدائي .. والعمل الفدائي لن يجلب لنا الخبز يا جدتي .. أصبحنا بسبب مهنته الجديدة فقراء هكذا نتيجة من يتخلى عن مهنة ابائه وأجداده.. كنت ادرك بان اي تقليل من أهمية ابنها يزعجها كثيرا ويخرجها عن طورها فهو كان بالنسبة لها المثل الأعلى في كل شيء .. فترد وبصوت عالي المثّل الذي اسمعتني اياه كثيراً ( ايش اوصلش ياحبه الى عند شامخ ثمر ) بهذا كانت تفرق غضبها وانزعاجها من مبالغاتي وتقليل أهمية وشان ابنها وبذات الوقت تحمسني وتتحداني .. فانا لم أكن في وجهة نظرها الاّ هضبه صغيره ومعروفه اسمها (حبه) وابنها هو اعلى جبال يافع (ثمر) لذا من المستحيل أن ترتفع الهضبة الى مستوى الجبل مهما حصل من تغيرات او حتى عوامل التعرية فالهضبة ستضل هضبة والجبل سيضل جبلاً .

كنت استمتع بمرافقة العم قاسم فاضل والعم سالم وثابت محمد كانت تأسرني قوة سواعدهم وتقنية عملهم في نحت الصخور وتمثيلها حتى تتشكل قوالب خاليه من التعرجات والنتوءات .. كنت احدث نفسي وبسعادة بالغة وأقول لن يمر الا عقد من الزمن سأتقن خلاها البنّاء والهندسة المعمارية وسيقوى ساعدي وحتماً سأكون بناءاً ماهراً وسيحترمني ويقصدني من يبحثون عن البنائين المهرة من الناس حتى اتفنن في اعادة بِنَا تلك الحصون الجميلة التي تمثل شيء من تراث وهوية وفن منطقة يافع فتفتخر الطبيعة بعرضها دون حذف او تغيير وكأنما بهذا تعرض شهادة من الفن والاتقان .

لكن للأسف عاد الجنرال (والدي ) من الجبهات بعد ان وضعت الحرب ضد الاستعمار والحروب الداخلية أوزارها وحصل الجنوب العربي على استقلاله الناجز من الاستعمار البريطاني ..كنت اظن بأنه سيفتخر بي وجهدي المبكر واخلاصي في ان احافظ على المهنة التي تميزنا عن غيرنا من قبائل يافع بل انها كانت تقريباً شبه محتكرة وصلاحية ( آلِ بن صلاح ) بامتياز كان كل عمومتي يشجعونني على اختياري لمهنة البناء ولحماسي في تعلمها ويعمقون حب المهنة في قلبي ويؤكدون لي بانه لايوجد شيء اجمل من ان تحافظ على تراث وتراكم خبرات وابداع آبائك وأجدادك .. لذا كانت تتملكني ثقة عميقة في ان والدي سيشجعني على هذا التوجه فهوا الاخر كان قبل ان يكون فدائياً في الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي كان بناءً ماهرا .. مثلي كان يوماً طفلاً لا تقوى ساعديه على حمل المطرقة لكنه صار يوماً بنائنا معروفاً ..ففي يافع كان يبني الحصون اليافعية الحجرية وكان مشهوداً له في بِنَا العقود الجميلة التي تزين المجالس ومداخل البيوت وفي هجرته الى المملكة العربية السعودية كان يبني الفلل الجميلة مستخدماً الخرسان المسلح بالحديد و قوالب الطوب والاسمنت وبعدها في ابين وعدن كان يوزع وقته بين بِنَاء الفلل الجميلة التي يتميز فيها الفن المعماري في المدن والعمل الفدائي حتى يدعم الجبهة القومية بالمال والسلاح حتى انه لازال يتذكر ويصف بدقة كيف بدل لحظة من لحظات حزن رفيقه سالمين الى فرح في مرحلة أتسمت بتنصل النظام المصري عن دعم الجبهة القومية وتحويل كل الدعم لجبهة التحرير في فترة ما بعد الدمج القسري في 13 يناير 1966عندما اخبره بانه قد أشترى من مجهود مقاولاته في البنّاء رشاش MMG مع خمسمئة طلقه رصاص وانه سيقدمها للجبهة القومية وسيتولى ادخالها الى عدن. والذي وصفها الجنرال بدقة في مذكرات حياته قائلاً:-

(بعد أن سمع سالمين هذا الكلام، غادرت علامات الغضب والحزن سحنته لتحل محلها بشائر الفرح وتوسعت عيناه لتكشفان حجمهما الحقيقي وضحك حتى برزت أكثر أسنانه، وقال لي مازحا:” شُو قلت يا أَدوَع؟.. عندك مكينة بِرِن بيافع؟! شو با تصلِّح بها بيافع؟!”. قلت له:” يا بن ربيع للأسف لخدمة الشيطان”. فقاطعني:” إذا أَحضرها وسنساعدك في توظيفها لخدمة الرحمن”. وضحك وهو يواصل حديثه:” هكذا” قلتها لي يوماً “.كان يلمّح بذلك إلى عبارة سمعها منّي في السابق وأنا أقص له عن مآسي الفتنة في مسقط رأسي (آل بن صلاح)، وكيف سعيت في البدء لتقديم المال للمصلي ليُحقّق رغبتي في وأد الفتنة فتنة الأهل تلك في مهدها، لكن بعد عام وللأسف الشديد شاءت الأقدار أن ينتصر الشر على الخير، وأن أنجرف مرغماً للمشاركة فيها، وعندها ذهبت للمصلي الذي كان يملك السلاح والذخيرة، فقلت له :” لقد سلمتك المال يوماًَ لتساعدني على خدمة الرحمن، لكن اليوم عليك أن تسلمني مقابله الذخيرة حتى نخدم الشيطان”.) ..
تلك التفاصيل ستجدونها موثقه في كتابه الذي صُدرَ في الأسابيع الماضية . “ذكريات عمران .. الفدائي والإنسان”

يتبع في الحلقة القادمة