fbpx
ذكريات الفدائي “عمران”.. صفحات حية من تاريخنا الحديث

 

د.علي صالح الخلاقي:
وأخيرا صدر كتاب “ذكريات عمران..الفدائي والإنسان” ، الذي تأجل صدوره لأشهر بسبب الحرب التي فرضها الغزاة الحوثيون وقوات المخلوع على جنوبنا الحبيب…. وهو ليس كتاب ذكريات شخصية، كما قد يتخيل البعض من الوهلة الأولى، بل هو (صفحات من تاريخ الجنوب العربي الحديث)كما يفصح عن ذلك العنوان الفرعي الذي يتصدر غلاف الكتاب، ولا غنى غنه للمعنيين والمهتمين بتفاصيل تاريخينا المعاصر، وأفخر شخصياً أن لي بصمات متواضعة في مراجعته وإخراجه، مكمّلة لجهد صديقي الدكتور الألمعي محمد صالح فاضل ، نجل البطل (عمران).
وأهمية الكتاب تنبع من كون مؤلفه وصاحب أفكاره أحد أبطال زماننا الذين نسجوا ببسالتهم وإقدامهم خيوط فجر الاستقلال، وأسهموا بقسطهم في جميع المراحل اللاحقة واحتفظوا بشموخهم وقاماتهم الإنسانية في وجه العواصف والمحن التي واجهت الثورة والوطن في الكثير من المنعطفات الخطيرة.
عِمْرَان، هو الاسم الحركي للفدائي والقائد الميداني المقدام والجسور صالح فاضل حسين الصلاحي، عُرف به بين رفاقه خلال العمل الفدائي، الذي تطلب السِّرية المطلقة، طيلة سنوات الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني منذ انطلاقة الثورة في 14 أكتوبر 1963م وحتى عشية الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م، وهو كما عُرف عنه فدائي من الطراز الأول، مقدام حد التهور والاندفاع، غير هياب، لا يعرف التردد والجبن.
لم تكن الثورة عنده، مجرد فعل ثوري مساير لها، وإنما هو توجيه وتأجيج لها، ولهذا كافح بهوادة ضد المستعمر وكان الفعل عنده التزام صارم ومشاركة فعاله لا تخلو من الإقدام والمغامرة. وفي هذه المذكرات نعيش معه أجواء هذا الفعل الثوري والعمل الفدائي، لحظة بلحظة وهو يسطر تلك الملاحم والبطولات مع رفاق دربه ، كتفا لكتف، ونحس بمعاناته واندفاعه ومغامراته التي عرضته للموت المحقق أكثر من مرة.
عندما نتذكر فدائيا أو مناضلاً، نذكره في الأغلب بأعماله ومواقفه التي سجلها وسطرها في سفر الثورة ومراحلها اللاحقة. قد نقرأها مكتوبة عنه أو نسمعها مما تتناقله الألسن. وصالح فاضل الصلاحي “عِمْرَان” ، متعه اللهُ بكامل الصِّحّة والعافية، يتميز بالبساطة والتلقائية والتواضع الجم، وهو صالحٌ وفاضلٌ حقا –لم يخيب ظن والده حين اختار له مسبقاً ذلك الاسم – وقد عُرف من قبل المواطنين في مختلف المراحل والمناصب التي تسنمها بعدم التَّكبُّر أو الاستعلاء، كما أبعد الذَّات عن الأضواء.
شخصياً سمعت عنه كثيراً منذ وقت مبكر. فمنذ سنوات دراستي الابتدائية مطلع السبعينات من القرن الماضي كان اسمه في منطقة الحد-يافع، ذائع الصِّيت، مِلْء السمع والبصر، ومحل الإكبار والاحترام المقرون بالإعجاب والتقدير.
لم تؤهلني سنّي حينها للتعرف عليه ، لكنني سمعت كثيراً عن بطولاته ومواقفه وتواضعه وارتباطه الحميم بقضايا وهموم الناس، وارتسمت صورة البطل عنه في مخيلتي، وترسخت منذ أن تشرفت بالتعرف عليه لاحقاً لأول مرة بقامته الرَّبعة، وشموخ هامته، وملامحه التي تَنِمّ عن اعتداد وحزم، وتواضع جم يجمع بين الوقار والحيوية.
ومؤخراً، حين أسَرَّ إليَّ صديقي الدكتور الطبيب الألمعي محمد صالح الصلاحي بفكرة تدوين وكتابة ذكريات والده ، وإعدادها للنشر ، سررت جداً لذلك الخبر السار والمفرح، واعتبرت ذلك خير وفاء وأفضل تكريم لهذا المناضل الفذ والجسور من ابنه البار، وهي بادرة طيبة ستترك أثرها الطيب في نفسية والده، وتكسر القاعدة الرتيبة التي درج عليها معظم الناس في تدوين سيرة الأبطال والتغنّي بمآثرهم بعد رحيلهم. ثم أن في هذا الصنيع الحسن فائدة توثيقة هامة تخدم تاريخنا الحديث وتضيف إليه صفحات ناصعة من سِفر تاريخنا الوطني كاد أن يطويها النسيان.
خلال روايته لذكرياته أطلق النفسَ على سجيَّتها، وحَسْبَهُ أنه كان صادقاً في سردها، كما في كل مواقفه. كان يعيد أحيانا ما سبق أن قاله أو يكرر بعضه مع الكشف عن معلومات جديدة لم يقلها من قبل، وهو ما تنبه له نجله د.محمد الذي كان المتحمس الأكبر لهذا العمل، فغربل وعدل ورابط هذه الأحاديث ، بل وكان يطرح على والده أسئلة إضافية لينتزع منه معلومات مكمّلة لموضوع كان قد بدأه أو حادثة معينة نسيها أو يقوده إلى موضوع جديد آخر لم يكن في الحسبان. ثم تولى د.محمد، بعد ذلك، تفريغ أشرطة التسجيل “الكاسيت” وتدوين وجمع محتوياتها ثم إعادة ترتيبها وصياغتها، دون تدخل في الأفكار والوقائع التاريخية، سوى بإلباسها لغة فصيحة ، أظهرت مقدرة الطبيب المتميز الناجح في تخصصه، وأنه مثلما يجيد الإمساك بالمشرط والمنظار الطبي كطبيب ماهر ومشهور على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، فأنه متمكن أيضاً من الإمساك باليراع، وإجادة فن الكتابة بإبداع، وهذا ما تجلى للعيان، في سحر البيان، الذي أعاد صياغته بإتقان، وبرع بشكل خاص في إجادة الوصف، بما له صلة بتخصصه كطبيب، وهو ما لا يخفى على القارئ اللبيب، وهكذا فمن محاسن الصدف أن تكون هذه بداية الإعلان عن موهبة الكاتب الكامنة لدى د.محمد، والتي هي هبة من الله يعطيها من يشاء.
إن هذا الكتاب لا يستمد أهميته من كونه مجرد ذكريات عابرة، أو شخصية تهم صاحبها فقط، بل من قيمته التاريخية والثقافية والاجتماعية، فالكتاب ليس فقط ترجمة ذاتية، وإن بدا في ظاهرة كذلك، من خلال تحليله لمراحل حياته منذ طفولته، لكنه زاخر بالتاريخ الوطني العام، لمراحل هامة تمتد منذ العهد القبلي مروراً بالثورة والاستقلال وبناء الدولة ، ونجده لا يقتصر على ذكر سيرته ومواقفه وإنما يحلل تلك المراحل بمستوى من الوعي ، فيضفي على هذا الماضي قدراً من رؤية الحاضر.
إن المناضل والفدائي والإنسان “عِمْرَان” يقدم لنا سيرة كَدّ وكفاح، مقرونة بالعمل والفلاح والنجاح، فيها الكثير من الأفراح ولا تخلو من الأتراح. وذكرياته هنا لا تخصه هو فقط ، ولا يرسم صورة زاهية لبطولات فردية خاصة به منفصلة عن بيئتها ومحيطها الاجتماعي ولا يتنكر أو يتغاضى عن ذكر مساهمات رفاقه وزملائه الآخرين، بل يوردها حسبما كانت عليه في مجرى الأحداث، وفي سياقها التاريخي، ويذكر دوره ومساهمته فيها كما كانت، سواء كان صاحب الدور الرئيسي “البطل” أو المساعد أو الحارس الذي يحمي ظهر زملائه من المناضلين الأبطال ، أو المناضلات “حالة نجوى مكاوي”. بل أنه يعطي كل ذي حق حقه، ولهذا يذكر بكل تقدير، وبدافع الوفاء، كل من عمل معه صنيعاً جميلاً أو قَدَّم له مساعدةً أو أسدى إليه معروفاً، عملا بقول الرسول الكريم :” مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ”. ومن أولئك نذكر على سبيل المثال: المناضل المصلي الذي أفصح عن تأثره به وبأفكاره في البدء، أو السائق ابن علوان الذي أخفى مسدسه بدافع وطني، أو القائد بن عليو الذي هَرَّبه وزميله المِسْوَدِي من المستشفى ونجَّاهما من السجن المْحُحَقَّق أو الإعدام المُحتَمل، أو الدكتور سالم أحمد الوالي الذي فتح له قلبه ومسكنه في الظرف الصعب. وهو بهذا الصَّنيع يؤكد أيضاً على أن نجاحه لم يكن بمعزل عن تعاون الجميع.
ويعرف الكثيرون العلاقة النضالية والشخصية المميزة والحميمة التي ربطته بسالمين منذ سنوات الكفاح المسلح ، قبل أن يتسنَّم رئاسة الدولة، حينما كان كل منهما يواجه مخاطر الموت المحتمل في أي لحظة مع كل عملية فدائية يتم تنفيذها، وحتى اللحظة الأخيرة المؤلمة من حياة سالمين.. نتعرف هنا أكثر على صفات سالمين الإنسانية وبساطته التي عُرف بها، وشوقه الذي لم ينقطع إلى كوخه البسيط وحنينه إلى خبز أمه في بيتها البسيط الذي لم تفارقه في أطراف زنجبار-أبين، وكل ما طلبته من ابنها الذي صار رئيساً أن يبني لها حماما فيه فقط، فبناه على نفقته الخاصة وسدد تكاليفه من راتبه.. أنها البساطة..النقاء..التي لم تلوثها إغراءات السلطة.
من النادر أن يكتب المرء ذكرياته بصراحة وبقلبٍ مفتوح ودُون تحفُّظ، فقد أعتدنا في كثير من المذكرات أن نقرأ جانباً من رؤية أصحابها للأحداث، دون أن يلامسون الصفات الخاصة بهم أو إبداء الرأي الصريح بمعارضيهم، حيث تطغى لدى بعضهم روح نفي الآخر وشطبه من التاريخ، وهو ما كنا نقرأه في موقف كثيرين السلبية من جبهة التحرير ، التي أنصفها عِمْرَان هنا وأعتبرها فصيلاً كفاحياً أسوةً بالجبهة القومية . كما نجد في هذه الذكريات مواقف كثيرة تستحق أن تدوَّن، لأنها تنبض بالوطنية الحقة وبالمشاعر الإنسانية الجيَّاشة، ونلمس في محتوياتها صدق وأمانة صاحبها وشجاعته المعهودة، وصراحته وشفافيته في الطرح، دون تحفظ، بل أنه لتواضعه لم يأنف أن يلوم نفسه، أو يعترف ببعض أخطائه، بل ولا يتعالى أن يقول عن نفسه كلاما قد يتحرج آخرون من إيراده عن أنفسهم، وربما تغاضوا عنه وتناسوه. وبالمثل لم يتحَرَّج من الاعتراف صراحة بمواقف حاسمة انقلب فيها 180 درجة ضد رغباته.. كما في موقفه من فتنة الأهل “آل بن صلاح” الذي سعى لوقفها في مهدها، ثم الموقف الثاني، وهو الأصعب في حياته وتمثل في خيار الوقوف ضد سالمين في اللحظات الأخيرة، بدافع استفزاز اللحظة. ولولا عناية الله، وحسن طالعه، لكان لقي حتفه في تلك الأحداث إلى جانب رفيق دربه سالمين، كما كان قد عزم أمره واتّخذ قرارهَ بصورة جازمة.
لقد كتب الله له السلامة من موت محقق أكثر من مرة، سواء أثناء حرب التحرير، حينما كان يصول ويجول بمغامراته الفدائية وميله إلى إلقاء نفسه في المخاطر والشدائد وهو يخوض غَمَرَات العلميات البطولية ويقتحم أهوالها، دون أن يحسب للعواقب حسابا، أو أثناء الصراعات والأحداث الدامية التي جرت بين رفاق الأمس ممن تحولوا إلى “الأخوة الأعداء” وكان وقود تلك الأحداث أعز وأقرب رفاق دربه، خاصة سالمين ومطيع، اللذان ارتبط بكل منهما بعلاقة مميزة…بالإضافة إلى قوافل أيضا من بقية المناضلين ممن التهمتهم تلك الصراعات في أُتُونها.
نعم، ما أروع أن تصدر مذكرات مناضل جسور وفدائي بارز في حياته، بعد رحلة عمر زاخرة بالنضال والمواقف، يسجل فيها كل ما يتذكره عن سنوات الجمر والنضال بأمانة وإخلاص، موضحاً توجهاته ومشاربه الفكرية والثورية التي آمن بها وانجذب إليها منذ شبابه، وأدواره ومواقفه اللاحقة دون أن يستجدي من أحد مدحاً ولا مجداً، ويشرح المواقف والأحداث، بما فيها مغامراته التي ذكرها، دون أن يجَمِّل أدواره الشخصية أو يضفي عليها هالة من البطولة الزائفة.
لقد أخضع ذكرياته لموقفه الاجتماعي وثقافته وقيمه المكتسبة ، وقدم لنا فيها مادة دسمة تجمع بين الخاص والعام، بين المتعة والفائدة، وعرفنا منه كيف كانت وجبة غذاء بسيطة وفي مطعم شعبي “مكافأة مغرية” للفدائي حينها على عملية جريئة ينفذها. ولا شك أن القارئ أو الباحث سيجد ضالتّه في العديد من التجارب والمواقف التي وردت بلغة سلسلة ، بسيطة، أحسن قيادها وحولها إلى لغة أدبية نجله د.محمد، فجاءت المتعة مضاعفة.
أعتقد أن الفدائي عِمْرَان وهو يسترجع ذكرياته الآن، بعد عُمْر حَفَل َبالأحداث والمواقف، يقف متأملا أمام جردٍ لما تحقق وما لم يتحقق من أحلامه، ورغم كل الانكسارات التي آلت إليها الثورة بعد الاستقلال بفعل الصراع على السلطة بين رفاق النضال، فأنني أخَالَهُ اليوم راضياً عن دوره ومواقفه الوطنية والاجتماعية وأفعاله الحسنة وسيرته المحمودة ، وسعيداً جداً في كونه نجح حيث أخفق والده عندما لم يتيسر له تحقيق حلمه في أن يلتحق بالمدرسة ليواصل تعليمه لأسباب أوضحها، لكنه تعلَّم وبلغ النجاح تلو النجاح في مدرسة الحياة والكفاح.. وأحيا حلم والده مجدداً وحققه من خلال حرصه على تعليم أبنائه وأحفاده. ومنهم اليوم هامات في تخصصاتهم، الدكتور محمد من أشهر أطباء أمريكا في الأمراض الباطنية وأمراض الجهاز الهضمي. والدكتور عادل من الاختصاصيين المعروفين في الأذن والأنف والحنجرة في عدن وصاحب مستوصف باسمه في خورمكسر، وعدد من أحفاده يواصلون تعليمهم الجامعي.
ختاماً أقول يحق لنا بمثل هذا البطل الجسور والمقدام أن نعتز .. وبمثل مواقفه أن نفتخر.. و ما أحوجنا إلى دراسة تراث وذكريات الفدائي الرائد والمِقدَام “عِمْرَان” لاستخلاص الدروس والعِبَر النافعة وما أكثرها.. ولهذا نقدم هذا العمل للأجيال ليكون زاداً لهم ، يقتبسون منه ما يكون عوناً لهم في رحلة الحياة ، خاصة من قد تضعهم الأقدار في ظروف مماثلة أو قريبة لتلك الظروف، فيكون بطلنا “عِمْرَان” مثلاً لهم يستلهمون منه روح التحدي والإقدام في تحقيق طموحاتهم ومواجهة ما قد يعترضهم من مشاكل أو صعوبات.