fbpx
انطباعات تاريخية عن رحلة خاطفة إلى الشعيب

د . علي صالح الخلاقي

كانت زيارتنا يوم الثلاثاء، 1سبتمبر2015م للشعيب خاطفة وسريعة، اقتصرت على زيارة عاصمتها الإدارية (العوابل) للمشاركة في أفراحها بتخرج سرية جديدة من أبطال المقاومة بمناسبة الذكرى 44 لعيد الجيش الجنوبي، وكذلك المرور العابر على مدينة(خلّة) التاريخية، التي ما زالت بقايا حصونها الأثرية القديمة في قمة الجبل شاهدة على عراقة هذه المدينة الحميرية العريقة الموغلة في القِدَم، وهي تحتاج لوحدها لزيارة خاصة للصعود إلى هذا الكنز التاريخي والغوص في خفاياه وأسراره.

وهكذا فرغم فرحتي التي لا توصف بهذه الزيارة الخاطفة، إلا أنها لم تشف غليل شوقي للتعرف أكثر على بقية مناطق الشعيب الكثيرة الأخرى، خاصة تلك التي ارتبطت في ذاكرتي بأحداث تاريخية هامة في سِفْر نضال شعبنا الجنوبي ضد قوات الأئمة الزيدية الغازية، وعلى الأخص (القزعة) التي قرأت وسمعت عنها كثيراً، وورد اسمها في الكثير من الأشعار والزوامل التاريخية لارتباطها اسمها مع (مَكلان) و(المضو) و(العوابل) وغيرها بالمواجهات ضد الجيوش الإمامية. ولعل أبرز المواجهات الشرسة كانت مطلع عشرينات القرن الماضي، ضد قوات الإمام يحيى بن حميد الدين وأبرزها معركة “القزعة” الشهيرة التي هبت فيها يافع لنجدة ونصرة الشعيب عام 1338هـ/1920م ، حيث حشدت فيها يافع والموسطة بشكل خاص قرابة خمسة آلاف مقاتل تدافعوا- كما يصف ذلك مؤلف سيرة الإمام يحيى- كالسيل لنجدة إخوانهم في الشعيب الذين استغاثوا بهم لدحر اعتداء القوات الإمامية، حيث أقبل أهل يافع بجموعهم إلى حصون القزعة، وهي جبال منيعة بأطراف الشعيب، وملؤها بالرجال والأبطال[انظر: سيرة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين المسماة كتيبة الحكمة من سيرة إمام الأمة، لمؤلفه عبدالكريم بن أحمد مطهر، وقد بالغ كعادة مؤرخي الأئمة في وصف انتصارات جند الإمام وإظهارهم بمظهر الحق]، ودامت الحرب بين الفريقين ثمانية أيام، ولم تتخللها فاصلة، ولما بلغت المواجهات أشدها عزز الجيش الإمامي قواته بجيش وافر ومعه أحد المدافع من موقع تمركزه في الضالع التي كانت تحت سيطرته حينها، فاختل بذلك توازن القوى وقلت المؤن والعتاد لدى اليافعيين ومع ذلك أبدوا مقاومة عنيفة، وبلغ بهم الأمر حد الاشتباك مع جند الإمام بالسلاح الأبيض. وهكذا قاومت يافع مقاومة مستميتة وقدمت قرابة سبعين قتيلاً من رجالها وأسر ما يقارب هذا العدد، وقتل من جيش الإمام أكثر من ذلك.

 

وقد تغنى الشعراء بتلك البطولات النادرة، وما يزال الناس يتناقلون بطولة بن عباري القعيطي الذي يروى أنه قتل ستة أشخاص من جنود الإمام وعندما نفدت ذخيرته عض على السابع بنواجذه حتى قتل معه.

ويحضرني هنا زامل يعبر عن المساجين لدى جيش الإمام بعد سيطرته على الشعيب, قاله شاعر يافعي مخاطبا السجان، حاكم القزعة من قبل الإمام، يقول: يا حاكم القزعة بغيت اتخبّرك هو عاد شي للشرع في صنعاء حدود لو تطلق المأسور با قول اكرمك وان حد قتل رَعْ عاد يافع بالوجود

ومن قصيدة للشيخ محمد زيد الحريبي قالها في بدء المواجهات مع جيوش الإمام في معركة القزعة، وقد كان أحد القتلى في هذه المعركة، يقول: قال الحريبي أتى الهاجس وأنا كنت غافل وكل شي له دليل وبارق النصر يلمع في ذلوق النصايل والموت عندي دخيل با تشهد القزعة الحمراء وحَيْد العَوابل وعند طَعْن النَّصَيْل يا من يروم الشرف والدائره والمنائل بالفعل جوده جميل الهرتيه والمَيَازر هي حزام القبايل ذي صَوْبَها ما يميل نهجم مطارح ونقتل كل من كان عامل والمقدمي والوكيل تعمدت أن أورد هنا هذه الفذلكة التاريخية والأشعار التي قالها المشاركون في معركة (القزعة) ضد قوات الإمام يحيى، لارتباطها بموضوع الزيارة الحالية وأفراح النصر، وما أشبه الليلة بالبارحة، فالعدو الغازي اليوم هو ذاته بالأمس، والتحالف الجنوبي اليوم، هو ذاته بالأمس، ضد ذلك العدو الغاشم القديم الجديد، المتمثل اليوم بورثة الأئمة من مليشيات الحوثيين وقوات المخلوع. ويلزمني الوفاء والعرفان بالجميل أن أذكر ذلك الاستقبال الرائع والحفاوة البالغة التي أحاطنا بها أهلنا في الشعيب وأخص مضيفنا الشاب الخلوق رمزي عبدالكريم، الذي كان في استقبالنا على أطراف مدينة العوابل، عاصمة الشعيب، وهو صديق لمنظم رحلتنا زميلنا قاسم عبدالرحمن بن صلاح، وقد أصر رمزي منذ البدء على أن نتناول وجبة الغداء في بيته، في قريتهم الجميلة (الثّيلة).. على وزن(السّيلة)..التي كانت محطة استراحتنا بعد مهرجان (العوابل).. وتقع هذه القرية الجميلة في تل مرتفع وتحيط بها قمم جبلية من بعض جهاتها، وفي الأسفل منها منبسط من الأرض الزراعية الخصبة التي ترفل هذه الأيام في ثوبها القشيب المطرز بالخضرة ومزروعات الذرة البيضاء. وقُبيل الظهر قادنا إلى آخر نقطة من الطريق المعبدة في رؤوس الجبال المؤدية إلى جبل حرير، ثم توقفنا في موقع مرتفع في أطراف قريته وأطللنا منه، من عُلُوّ، على بانوراما ساحرة لقرى عديدة وجبال وشعاب وأودية ومدرجات زراعية في بطون الجبال كثيرة. ومن القرى التي رأيناها من موقعنا: الشّرف، صَبِر، العَهْدَيِّة، القُمعة، لاجِلْ، وقرى صغيرة متناثرة أخرى. وهناك في الأفق البعيد، في أعلى قمة جبل تصل إليه رؤيتنا تبدو حصون (القُزعة) العالية، وهي الوجهة التي أشتاق لها ، لما أسلفته من أسباب، وأتمنى أن تتاح لي فرصة زيارتها في المستقبل.