fbpx
بيني وبين صديقي النازح (شوقي)

كتب/ علي صالح الخلاقي
(وفاءاً لأحد أبطال حرب التحرير الذي وجد نفسه نازحاً .. في زمن مداهمة الغزاة “الحوثعفاشيين” لعدن فغادر بيته في خورمكسر كَرْهاً وقهراً)
لم يحدث أن نزح أبناء عدن وسكانها المسالمون أو هجروا بيوتهم مكرهين إلى مناطق أخرى في محيط عدن أو خارجها، حتى في أسوأ الظروف في تاريخ هذه المدينة المسالمة الآمنة، سوى في هذه الحرب العبثية البغيضة التي شنها الغزاة الحوثيون وقوات المخلوع عفاش على عدن والجنوب، وألحقت دماراً وخرابا هائلاً ومفجعاً لم تشهده عدن على مدى تاريخها الموغل في القدم، كما ذهب ضحيتها مئات الشهداء وآلاف الجرحى والأسرى، وتركت آثاراً غائرة في النفوس المثخنة بالجراحً التي لم تندمل بعد.
كم هو مؤلم حقاً أن يترك المرء مُكرهاً داره وأمتعته وأثاثه وصور ذكرياته معلقة على الحيطان ورفوف الكتب ويغادر خالي الوفاض هو واسرته مكرهين وباحثين عن مأوى يأويهم طلبا للنجاة من القصف العشوائي الحاقد الذي طال الجميع دون تمييز، بل وأودى بحياة الكثيرين قبل أن يحزموا ما خف من أمتعهم الضرورية.
هكذا كان حال صديقي (شوقي) الذي نزح من مدينة (خورمكسر) إلى المنصورة قهراً واضطراراً ، مع أفراد أسرته مثله مثل الآلاف ممن نزحوا من خور مكسر وكريتر والمعلا والتواهي بعد أن داهمتها قوات الغزاة (الحوثعفاشيين)..إذ ودع هو وأسرته بيته الأرضي المتواضع الذي لا يقارن بقصور رموز الاحتلال ممن نهبوا البلاد طوال أكثر من عقدين، لكنه مسكنه الأليف والمحبب إلى قلبه والمعمور بأهله ومسقط رأس أولاده وأحفاده.
وشوقي، لمن لا يعرفه، مناضل وطني جسور، أشهر من نار على علم بين صفوف الرعيل الأول من مناضلي ثورة 14 أكتوبر 1963م ضد الاستعمار البريطاني، وأحد رجالات الدولة الجنوبية البارزين.
وشوقي، هو الاسم الحركي للمناضل أحمد محمد حسين الضباعي، ولهذه الكنية التي تكَنَّى بها في مرحلة الكفاح المسلح في مدينة عدن نصيب من اهتماماته وعلاقته بالأدب والشعر, فهو شاعر شعبي ومهتم بالشعر والتراث الشعبي. عمل بعد الاستقلال في المؤسسة الأمنية وتسنم مواقع قيادية متعددة. ويعتبر من الكفاءات الجنوبية البارزة التي أُقصيت قسراً عن مواقعها الوظيفية وهي في قمة العطاء والخبرة والتجربة، وشكلَّت ما يُعرف بحزب(خلّيك بالبيت) عقب حرب احتلال الجنوب المشؤمة صيف 1994م.
وبحكم صلته الوثيقة بالأدب والشعر ارتبط بعلاقة صداقة متميزة مع الشاعر الكبير المرحوم شائف محمد الخالدي حتى آخر لحظة من حياته. وله قصائد متبادلة معه ومع غيره من الشعراء.. ومن حبه وتعلقه بأشعار الخالدي كتب بعين الناقد المبدع كتاباً عن أشعار الخالدي بعنوان (تأملات في شعر الخالدي) وصدر عام 2010م..
يطوي شوقي الآن العقد السابع من عمره فهو من مواليد1945م في قرية الهجر- لبعوس, عاصمة مكتب البُعسي, ومشيخة هذا المكتب لأسرة آل الضباعي التي ينتمي إليها الشاعر.
ضمن زياراتي له، في مسكنه المؤقت المجاور لحينا السكني، عرجت على صديقي النازح (شوقي) في الأسبوع الأخير من رمضان المنصرم في المنصورة.. كان حينها مثقلا بالهموم والمعاناة، وقد انكمشت أساريرُ وجههِ وتقلّصت، ربما لإطالة أمد الحرب والحصار والنزوح والمعاناة والشوق إلى الخلاص والعودة إلى الدار ، وأحسست شخصياً أن في أعماق نفسه وحنايا صَدْره مِرْجلٌ يغلى من الغضب والسخط على ما آل إليه حاله وحال عدن المحاصرة والمحتلة جزئياً، وكأن اليأس والقنوط قد وجدا منفذاً إلى قبل الرجل الصلب والفدائي المقدام في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني، الذي يشعر أنه بحكم سنه المتقدم لا يمكنه فعل شيء.. وعرفت حينها معنى (قهر الرجال) ولماذا استعاذ عليه رسولنا الكريم بربه قائلاً: (أعوذ بك من قهر الرجال)، فالقهر أمره عظيم، خاصة حين يكون سببه “جور الاحتلال”، وهو في قول كثير من العلماء: ما يصيب الإنسان من قهر وهَمٍّ وغَمِّ، لغلبة انتصر عليه العدو الغاشم الظالم بها وهو يعلم أنه على الحق، وخصمه على الباطل، وتبادر إلى ذهني أيضاً المثل الشعبي (الغُلابَهْ بنت عَمْ الموت) والغُلابة هي القهر.
كنت شخصياً عائداً حينها للتو من زيارات ميدانية كنا نقوم بها مع عدد من زملائي أكاديميي جامعة عدن لجبهات المقاومة الجنوبية في الخطوط الأمامية التي كانت مواقعها حينها في جعولة وأطراف بئر أحمد وصلاح الدين والممدارة ومشارف مطار عدن، لمؤازرة ورفع معنويات أبطال المقاومة الجنوبية الأشاوس، فكان لزاماً عليَّ التخفيف على صديقي مما هو فيه، وهو المعذور في ذلك، فوصفت له حقيقة ثبات وصمود الأبطال وإصرارهم على تحقيق النصر الذي بات قريبا جداً، خاصة مع وصول المدد العسكري السخي المتمثل بالأسلحة النوعية والمدرعات والعربات من الأشقاء في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأكدت له بلغة الواثق، بعد أن رأيت تباشير النصر في مواقع صُنَّاعه الأبطال في جبهات النزال والمواجهة، أن عيد الفطر سيكون عيدين إن شاء الله .
حينها فقط انبسطتْ أساريرُ وجهه وسُرَّ وانشرح صدره ، وتحول اليأس إلى أمل يشع ضياءً ونوراً في جبين صديقي فابتسم ابتسامته العريضة المعهودة وانفرجت شفتاه حتَّى بدت نواجذُه، وقال مخاطبا نجله الدكتور سامي وحفيده:” مَن لنا مثل ابن الخلاقي يرفع من معنوياتنا‍‍”.
بعد أيام قليلة تحقق النصر المؤزر في جبهات عدن، وخرجت عدن عن بكرة أبيها تبتهج بالنصر، وكان العيد عيدين فعلا.. عيد الفطر السعيد وعيد النصر المجيد، وفي غمرة هذه الأفراح تذكر صديقي شوقي ما دار بيننا، فبعث لي هذه الأبيات التي أبدعتها قريحته الشعرية من واقع ذلك اللقاء (التفاؤلي) الرمضاني، الذي لم ينساه.. يقول فيها:
مَن مِثْل الخلاقي صديق
يعرفها وهي طائرة
قال: ابشر وكن يا رفيق
واثق إنها سابرة
با نقضي على ذا الحريق
هو وأحكامه الجائرة
با نجتاز باب المضيق
وأعلام الوطن ظاهرة
يكفينا وقوف الشقيق
ما خَلّى لهم طائرة
وأبطال الجنوب العريق
ذي هم بالسنة العاشرة
خاضوها معارك حقيق
ضحوا بالدماء الثائرة
ندعو من بخلقه شفيق
يحفظكم من الفاجرة
من للغام ذي في الطريق
لأن اسمك في الذاكرة
تحمل فكر عالي عميق
في المجموعة الفاخرة
قدمته ليافع بريق
نور أجيالنا الحائرة
27 يوليو2015م
(من وحي لقائنا الأخير..اللواء شوقي الضباعي )
******
من جانبي آليت على نفسي الرد على أبياته شعراً- رغم أنني لست بشاعر- فصنفت الأبيات التالية ردا على صديقي شوقي، أقول فيها:
شوقي أنت نعم الصديق
لك موقع في الذاكرة
فارس في نضالك عريق
رغم أوضاعنا العاثرة
زُرتك حين شَبّ الحريق
نازح في حَمَا الهاجرة
يا قهراه..!! باطل وضِيْق
من غزو القوى الغادرة
لكن الشقيق الحقيق
كانت نَصرته حاضرة
أرسل نجدته للشقيق
طيراً في السماء طائرة
تسحقهم حُمَمها سحيق
دارت فيهم الدائرة
وابطال الجنوب العريق
خاضوا ملحمة باهرة
ساقوا الخصم سوق الرَّقيق
ردّوا قوته صاغرة
كان النصر فيهم لصيق
وأزلام العُدَى خاسرة
نصر الله مؤزر وثيق
أرضي حُرَّةً طاهرة
واجب شعبنا يستفيق
يصلح داره الفاخرة
سته دَور منظر أنيق
ما مثله في الظاهرة
نعمل كلنا كالفريق
جاد الصيف في ماطره
شوقي: قُم نشق الطريق
أنتَ خبرتك زاخرة
ربي يحفظك يا رفيق
يجعل صحتك وافرة
يالله أنت نعم الشفيق
اجعل دربنا سابرة
عدن 2 أغسطس 2015م