fbpx
في دبي توقعنا الحرب ولم نتوقع بشاعتها !

د.  قاسم المحبشي

بدعوة كريمة من احد مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية وصناعة القرار في دول مجلس التعاون الخليجي في دبي قدمنا من مدينة عدن في منتصف شهر مارس الماضي للمشاركة في أعمال الورشة المكرسة للأزمنة اليمنية ورغم ان الترتيب لهذه الورشة قد تم على عجل وتحت ضغط الاحداث المتسارعة  الا ان الاوراق المقدمة من نخبة من الباحثين والباحثات العرب حاولت التركيز على اربعة محاور اساسية هي : البنية الاجتماعية والاقتصادية لليمن والقوى الفاعلة  والمتقاتلة الراهنة والموقف الإقليمي والدولي من الأزمة وسيناريوهات ومآلاتها المحتملة. في اربع جلسات عمل متواصلة جرت الورشة ودارت المناقشات الجادة في فضاء رحب وسلس من تبادل وجهات النظر والآراء المختلفة والنقد البناء اذ طرحت اربعة سيناريوها منها: التعويل على استمرار العملية السياسية والحوار بين الأطراف المتنازعة وآخر يرى إمكان تفكيك التحالف بين قوى الهيمنة العسكرية القبلية بقيادة صالح والحركة الحوثية المدعومة من ايران ، وآخر كان يراهن على دور ( التكتل الواسع لقوى الإنقاذ الوطني) الذي أعلن حينها في صنعاء من لفيف من الاحزاب والنخب اليمنية  ضد انقلاب الحوثي وفضلا امكان تفعيل القوى الاجتماعية والقبلية اليمنية ذات الاقلبية السنية في الشمال والتي لا يمكن لها ان تسمع للأقلية الزيدية من التمدد خارج صنعاء وكان الرهان هنا على محافظات وسط اليمن الكثيفة السكان اما السيناريو الاخير فهو الذي كان يراهن على الدور الحاسم لمجلس التعاون الخليجي في ترويض الأزمة المشتعلة تحت الرماد حينذاك

اما نحن القادمون من عدن المحتلة فقد كان رأينا من واقع معرفتنا بمكة وشعابها، ان القوى جميع القوى الشمالية وطابورها الخامس في الجنوب تتأهب الان لاجتياح الجنوب ، وان كل الرهانات الاخرى ليست بذات قيمة واعتبار في واقع حال اليمن الآن مع احترامنا وتقديرنا الرفيع للزملاء والزميلات الذين كانوا يراهنون عليها بعدها مآلات ممكنة وسيناريوهات محتملة، اذكر أنني كنت شديد الاصرار على ان كل المؤشرات التي تتنضد في صنعاء حينذاك كانت تدل دلالة قاطعة بان الحرب هي الخيار الوحيد ليس لأنني احب الحرب وأريدها ولكن لمعرفتي بحقيقة القوى الانقلابية الفاعلة والمهيمنة في صنعاء اليمنية ورهاناتها الاستراتيجية في ظل ضعف القوى والنخب اليمنية الحديثة والتقليدية التي يفترض ان تكون مناوئة للحركة الحوثية الطائفية المدعومة من ايران. كنت اردد (( ان الحرب قادمة وأن عدن والجنوب سوف تحارب ولن ترضخ ابدا لغزوة شمالية جديدة لاسيما ونحن نعلم وكل العالم يعرف ان شعب الجنوب  منذ عام 1994م وهو في ثورة مقاومة سلمية للاحتلال الشمالي التكفيري الغاشم ويستحيل ان يتقبل فكرة أي غزوة شمالية جديدة تحت اية راية او شعار وكل هدفه هو الخلاص من براثن هذه الوحدة القاتلة وتحرير السيادة المغتصبة بالقوة العسكرية الفجة ؛ كنت اردد ذلك  بكل ثقة وكان بعض الزملاء يبتسمون غير مصدقين ما اقوله! ورغم ذلك سارت العربة بغير ما كان يشتهي السائق !

اذ لم تمض ساعات قليلة على نهاية ورشتنا الموقرة  حتى اندلعت نيران الحرب في عدن بين عصابات الامن المركزي الشمالية والمقاومة الجنوبية في خور مكسر كان ذلك في 19 مارس اذ لم تخني الذاكرة!  وهذا ما افضى الى توقف حركة الملاحة في مطار عدن الدولي، وكان من المفترض ان نعود الى عدن على فلاي دبي حسب الحجز إلا شركة فلاي دبي اشعرتنا بتأجيل رحلتها الى عدن حتى وقت لاحق فاضطر المركز الذي استضافنا في لنقلنا الى فندق اخر في انتظار عودة خدمة الملاحة في مطار عدن الدولي بعد خمس ايام علمنا ان هناك طيارة يمنية ستذهب الى عدن وهي اخر طيارة نقل مدنية تهبط في عدن، اذ طارت في غفلة من زمن الحرب المستمرة .

وهكذا ركب زملائي اليمنية الى عدن،  وانا ركبت سماء دبي الى قطر لعلني اقترب من مكان انعقاد المؤتمر الدولي الاول ( العلوم الإنسانية أكاديميا ومهنيا : رؤى استشرافية للمستقبل ) المزمع انعقادة في جامعة الملك سعود، كلية آداب الرياض في ٦- ٧ ابريل الماضي  والذي شاركت فيه ببحث بعنوان ( العلوم الإنسانية وسوسيولوجيا العلم المعاصر)  صار لي قرابة عام كامل اعمل في انجازه، ومن قطرتابعت اللجنة المنظمة للمؤتمر لتغيير بلد القدوم بدلا من عدن الى الرياض،.

تغيرت من الدوحة الى الرياض وهكذا تمكنت من المشاركة الفاعلة في مؤتمر العلوم الإنسانية  غير ان التداعيات المتسارعة للحرب والاجتياح الشمالي الثاني للجنوب ودخول مليشيات الحوثي الى العند والحوطة جعلتني في غاية الصدمة والذهول ! كيف حدث هذا التداعي الخطير في (( ثورة التغيير اليمنية)) في ظل الشرعية الدولية وحوارات جمال بن عمر المكوكية والمبادرة الخليجية لتتمخض اخيراً غزوة ثانية للجنوب المسلوب تحت راية ( المسيرة القرآنية والصرخة الايرانية الشهيرة!)؟ وكيف  تخاذلت وصمتت جميع قوى الرهان الشمالية التي ادعت معارضتها للحركة الانقلابية الحوثية الطائفية؟ وكيف استطاعت المليشيات الحوثية القادمة من جبال مران وحليفها في سنحان  العبور الى عدن عاصمة الجنوب البحرية التي تفصلها عن صعده وصنعاء  اكثر من ٤٠٠كم؟ .

وكيف مرت تلك القوى   العسكرية الشمالية مرور الكرام في صنعاء ذمار وأب وتعز وسط اليمن التقليدي المفترض انه _اعني الوسط اليمني _ مقاوم للحوثي وعفاش بحسب تعبير صاحبة نوبل توكل كرمان؟! انها اليمن التي نعرفها منذ اقدم العصور تختلف في كل شيء وتتوحد ضد الجنوب العربي حتى وان اضطرت لاستيراد جيش إيراني ويقال ان كثير من المقاتلين في عدن ولحج والضالع وابين وشبوة  هم من مختلف المحافظات اليمنية الشمالية ومن  ايران الشيعية!! هل انتهت اللعبة ام بدأت الآن يا صناع القرار ونخب الشمال الحديثة والقديمة المهيمنة والمهيمن عليها  تبا للخيانات والخذلان ! وِلن تكون الجنوب مكانا آمن للتسويات القذرة بين تجار الحروب والمصالح الضيقة  ولطالما كتبت هذه العبارة منذ زمن طويل ( ناردا ما فهمتوني ونادرا ما فهمتكم

اما حينما نسقط كلنا بالوحل حينئذ  فقط يمكننا ان نتفاهم) اذ كنت اعتقد انها ممكنة في ما مضى اما الان وبعد كل هذا التمرق باوحال الحرب والقتل والدمار والخيانات والخذلان  فمن المؤكد ان الفهم والتفاهم صار محال بين قوى الغزو والنهب والتدمير المهيمنة في الشمال وقواه المستكينة والمهيمن عليها وقوى الجنوب المقاومة التي كثرت عليه السكاكين منذ عام الفخ الكبير في ٢٢ مايو الأسود عام ١٩٩٠م مثل الأسد الجريح تكالبت عليه كل الكلاب وشذاذ الآفاق من كل حب وصوب ولم يجد له في كل بلاد اليمن الظليم احد من نصير حتى من تلك القوى التي كانت حصان طروادة للإيقاع بدولة الجنوب المستقلة ذات السيادة بأيدي براثن  الغزاة المتتالين في الحربين الغاشمتين الذين لم يتركوا للباطل طريق وما حدث قبل يومين من مجزرة مروعة لسكان مدينة التواهي الكريمة هو دليل قاطع على اكتمال  اركان جريمة الإبادة الجماعة الممنهجة المرتكبة في الجنوب والتي طالمنا وان كتبنا عنها منذ زمن طويل. فهل ثمة من يفهم السر والمعنى؛ تعددت الرايات والقتل واحدا وسلام الله على الإنجليز (ملائكة الرحمة) بالقياس غزاة التكفير الاولين والاخرين   من انصار القتل والقنص والتدمير والاغتصاب القادمين من الشمال، اذ مآلات هذه الحرب المستمرة على الجنوب وشعبه المقاوم  

لم تكن بحسبان احد ابدا حتى من أشد الناس مساومة ومداهنة  بحجم جرائمها ووحشيتها وعنفها وقسوتها وطولها وفداحة اضرارها التي يستحيل دملها مع السنين، انها الحرب التي لم يشهد لها تاريخنا مثيل ففي حينا الواقع على كورنيش بحر العرب حي السعادة في خورمكسر فقط وهو حي صغير بلغ عدد الشهداء والشهيدات الذين اغتلتهم ايدي الغزو والإثم والعدون من حوافيش الشمال 170شهيدا وشهيدة وهو عدد لا يساوى عددالشهداء الذين سقطوا في مقاومة الاستعمار الانجليزي طوال 129عام!