fbpx
كلمات بين يدي علي بامهدي

رحل علي سالم بامهدي الشاعرالشعبي الذي عاش بسيطاً، ومات بسيطاً، بعد معاناة مع مرضٍ، أنهك جسده وروحه، وكذلك هم المبدعون لا يثقلون على أحدٍ، وهم الذين يؤثثون الزمان والمكان بجماليات ما يبدعون.

متوالية الرحيل تدور بقسوةٍ، وتضع مبدعينَ على لائحة الانتظار المعجّل، وهي وإن تكن مشيئة إلهية – واللهم لا اعتراض– إلا أنها في قطبها البشري، تضجّ بمشاهد مؤلمة موجعة، إذ تغدو الأيام الأخيرة للشاعر خاصةً والمبدع عامةً أشبه بالتشهير الاجتماعي، عندما يكون علاجه عبئاً على مجتمعه الذي بث فيه من روحه وفكره وجماله، فيستنكف أن يردّ إليه ذرةً من وفاء، كأنما ينتظر النعيَ ليقرأ عليه الفاتحة الأخيرة.

الكائنات الجميلة في مجتمعنا، غالباً ما تعيش مستورة الحال، فهي عن الثروة والوجاهة والسلطان، في شغلٍ لتبهج مجتمعها بجديدها الجميل، واثقةً أن تلك البهجة هي ما سيبقى منها بعد أن تغادر الكون، ولعلها تعتقد أن من أبهجتهم لن يتفرجوا عليها حينما يمسها الداءُ والأعداءُ، لكنها تفاجأ بأن هناك من لا يريدهم إلا أحصنةً في سباق، فإن مرض الحصان أو شاخ، فل تطوِهِ رياح النسيان. لكن تلك الكائنات الجميلة، بما يجري في أنساغها من دماءٍ نظيفة تأبى إلا أن تموت واقفةً، تماماً مثلما كان يستظل بأفيائها المستظلون، ويلتذون بأطيب من ثمراتها، وربما يرمونها أحياناً بأحجار طائشة.

تداعيات تلفني الآن، إذ أقف بين يدي علي بامهدي الجميل، فأرى المعلم حميدان، وسالم محمد مفلح بوراشد، وصالح عبدالرحمن المفلحي، وعمر أبوبكر العيدروس، وسعيد عبدالنعيم، وعمر محمد باعباد، وعبدالقادر الكاف، وسعيد عمر فرحان، وسالم عبداللاه الحبشي، وعوض سعيد عبدن، وسالم أبوبكر باذيب، وعبدالرحمن الملاحي، وأحمد عوض باوزير، وسالم أحمد بامطرف، وكرامة مرسال. هؤلاء مثلاً لا حصراً، وأمثالهم من مبدعي حضرموت، أضافوا إلى المدونة الإبداعية والجمالية إضافات نوعية، وسترى الأجيال القادمة قاماتهم الشاهقة أكثر مما رآها الجيل المعاصر، فلكل منهم بصمةٌ لا تمحى ولا تحاكى، لكن شيئاً او أشياء من حيف النكران مستهم في صميم الروح.

أذكر أننا في سكرتارية اتحاد الأدباء بالمكلا، قبل تسع سنوات، سعينا من أجل أن نؤمّن للمبدعين المتقاعدين عن العمل والمسنّين، ممن ينتمون للاتحاد بالعضوية أو من لا ينتمون، فأعددنا مذكّرة ضمت شخصياتٍ وأعلاماً بارزة، بعضها ممن ذكرتهم في الأسطر السابقة، وكنا نظن أن علَمية هؤلاء سوف تدفع باتجاه تثبيت حق للمبدعين في الرعاية الاجتماعية، لاسيما بعد التقاعد والشيخوخة، لكن الصدمة التي جعلتنا نصرف النظر عن متابعة المذكرة، بعد أن دُخنا السبع دوخات، أن ما سيُمَنّ به على كل منهم، في حال الاستجابة والاعتماد، مبلغ شهريّ لا يتجاوز الألفي ريال (2000) شهرياً يتم تسليمها فصلياً. عندئذٍ، أيقنّا أن إحالة المبدع في تقاعده أو شيخوخته إلى متسول من الدرجة العاشرة، إهانة قاتلة، وابتلعنا الغصة عنهم، لأن في إحالتهم إلى قائمة الـ(2000 ريال) شتيمةً آخر العمر للمبدع الجميل الجليل، ولا نقبلها ، في حين أن أرتالاً من التافهين، يمضغون قات الخنى، بأضعافٍ مضاعفةٍ في ليلة واحدة.

علي بامهدي، الشاعر الذي ارتبط بقاع المجتمع، منسابةً على لسانه الكلمة والفكرة والموقف بجمال وجلال الشاعر اللطيف المعشر، ذو الروح الضاجّة بالإحساس بالناس، لا تملك إلا ان تحبه، فهو ذو كاريزما خاصة، بملامحه العذبة كالتمر الحجري، وبروحه الخفيفة الظل، وصوته ذي البحّة الآسرة، وابتسامته التي تدخله كل قلبٍ بسلام.

الحديث عن بامهدي شجونه عديدة، ولعل زملاء آخرين سيخوضون في تفاصيل من ذكريات، عن حياته، وأشعاره الشعبية، ومساجلاته، ومسامراته، وهي جديرة بالتناول المفتوح، لكنني سأكتفي هنا بإشارة أراها مما يميز هذا الشاعر الذي تجاوزَ المنجز الشعري العاميّ الدائر في الذاتيات فرديةً كانت أم جمعية، فجرّب المسرح الشعري في زمن التجريب المحضاري، فهو من الشعراء القلائل الذين كتبوا الأبرويتات، وكانت أعماله تحظى بشعبية عالية بالتجاور مع أوبريتات المحضار الشهيرة.

تجريب بامهدي كتابة الأوبريت باللهجة العامية، علامة متقدمة على أن لدى بامهدي ما يميزه كثيراً عن أقرانه، ولقد أجاد ونال حضوراً جيداً، لكن حضور المحضار في الأوبريت كما هو في الأغنية كان المانشيت الرئيس الذي يتصدر المقروء، ثم أن ما حاق بحضرموت من ارتكاسة جمالية وأدبية وفنية، بعد الاحتلال في 1994م، وتدمير البنية التحتية للفنون كالموسيقا والمسرح والرقص الشعبي والغناء، وتشتيت المبدعين وتجريمهم فنياً، والتضييق عليهم رسمياً واجتماعياً، قد أجهض مشاريع جمالية كانت إسهامات بامهدي المسرحية وغيره تعد بها، وفي هذا الأمر تفصيل يطول.

إن الوفاء لبامهدي وصحبه، ليس بالبكائيات وإنما بأن نكون مثلهم عطاءً متجدداً، ولقد رحل بامهدي وهو يحلم بوطن حر عزيز كريم، لا يهان فيه الإنسان في أرضه، لكنه لم يرَ ذلك اليوم، ومات وفي نفسه ألمٌ وفي جسده وجع، لكن في روحه رضا بأنه لم يبقِ من نفسه نفَساً إلا وبثّه في وطنه. غشيتك الرحمة يا علي.