fbpx
الفرقة الأولى”مقوّت” .. الوجه الآخر للاحتلال

إشارة لابد منها:
(( إذا كان متعاطي القات من مواطني بلدنا المحتل يصرف في اليوم ألف ريال كحد أدنى، وعدد المتعاطين خمسمائة الف مواطن، فإن إجمالي تكاليف تعاطي القات، وفق رؤية تقريبية: في اليوم الواحد 500 مليون، وفي الشهر 15 مليار ريال، وفي السنة 180 مليار ريال، وكل هذه الأموال تذهب لتعزيز نظام الاحتلال )).
أ.سعاد علوي رئيسة مركز عدن لمكافحة المخدرات

(1)
القات هو الوجه الآخر للاحتلال، باعتباره جزءاً من استراتيجية سياسية وظفتها حكومة صنعاء قبل الوحدة في مناطق نفوذها، ثم عمقت تطبيقاتها في المناطق المستباحة بآثار حرب صيف 1994م، لتتشكل شبكة أخطبوطية لـ(تقويت) الشعب المحتل، ولاسيما الشباب، من باب المندب غرباً إلى النقطة الحدودية مع عمان في المهرة شرقاً، تمهيداً للدخول في غيبوبة مستدامة، تمكّن قوى النفوذ والهيمنة والاحتلال، من تنفيذ مخططات تدميرية شاملة اقتصادياً، وتدشين مرحلة تدجين واسعة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وهو ما تجلّى في انتشار ما عرف بمنتدياتٍ اتخذت مسميات شتى، منها ما هو اجتماعي، وما هو ثقافي، وما هو سياسي، وإن كانت في الغالب عبارة عن أوكار، أو بتخفيف الصفة: لوكندات للتخزين والراحة الزائفة.
لكن القات ليس الوجه الآخر للاحتلال. إنه الوجه الأول له، فهو المخدّر الذي كافحه الوطنيون، سياسياً إبان الحكم البريطاني، بمقالات ضدية، مع أن بريطانيا لم تكن مشجّعة لانتشاره، فثمة قوانين ضابطة كانت تحدد تداوله، في عدن، وهناك قوانين كانت تحظر تداوله في محمياتها الشرقية، إذ كان محرماً في عهد السلطنات القعيطية والكثيرية والمهرية، ثم كان لدولة الاستقلال الأولى إجراءات منبثقة عن قانون رسمي، حدد تداوله في عدن بيومي الخميس والجمعة والمناسبات، فيما راعَى خصوصية المناطق الشرقية، فظل القات محرماً دخوله إلى حضرموت والمهرة وسقطرى، حتى مايو 1990م، عندما ألغي القانون في سابقة سقوط أولى في أحضان دولة القات السياسي، التي كثفت عملها لاستشرائه كالنار في الهشيم.
(2)
ربما يقال إن تعاطي القات حرية شخصية، وهي كذلك على المستوى الفردي ربما، لكنني لست أدري كيف أفهم أن يكون هناك منتمون لحركة شعبية تطالب بالخلاص من الاحتلال، لكنهم ممن يكرسون ثقافته المرتبطة بالمحتل، حيث الدوران في فلك استراتيجية القات السياسي التي تعد واحدة من أهم أدوات هيمنته وتمكينه. ولست أدري أيضاً كيف أفهم أن يكون هناك أحرار في الساحات، وهم مستعبدون للقات ليس بوصفه عادة اجتماعية، وإنما أداة احتلالية، إذ كيف يكون المرءُ ضد الاحتلال، وهو متماهٍ مع الاحتلال وثقافته، حيث لا فرقَ حقيقياً يميزه سلوكياً وثقافياً عنه. ثم أن من لا يملك إرادته في إدارة نفسه، كيف له أن يستطيع إدارة حركة، أو قضية، أو شعب؟. فالقات بحسب وصف الزبيري قبل أكثر من نصف قرن، هو الحاكم الأول في المملكة المتوكلية اليمنية، لأنه سيد الكل، والمهيمن على الجميع. فأي فرقٍ بين وضع كهذا، ووضع نجد فيه أغلب قيادات مكونات الحراك السلمي والثوري، خاضعة لسلطة القات، وهي لا تختلف جوهرياً عن قيادات سلطة الاحتلال، من حيث الاستسلام للحظات المزاجية، حيث تهيمن ثقافة معينة، من ملامحها إهدار الوقت والجهد في آنٍ معاً.
(3)
ولو أن الأمر يقف عند مستوى القيادات باعتبار أنه منها من هو موصول بماضٍ له تشوهاته النفسية والسياسية، لهان ذلك، لكن القاعدة الشبابية التي ترى في نفسها بديلاً لتلك القيادات، هي الأخرى خاضعة لسلطة القات السياسي وثقافته، مع أن رؤية الشباب تلك صحيحة على المستوى النظري، لكنها ليست كذلك على المستوى الواقعي، الأمر الذي يفسر العشوائية، والارتجالية، وعدم التخطيط المرحلي والاستراتيجي، وضعف التراكم النوعي والإيجابي، وسهولة الانسياق خلف تكتيكات القيادات التي أصبح القات ومشمولاته أداة من أدوات أخرى توظفها للتخريب السياسي والثوري، في أشد مراحل الثورة السلمية التحررية حرجاً وخطورة، مستغلة ضعف القدرة المادية لدى الشباب، فتحيلهم إلى أدوات مساعدة، ضمن لعبة التجاذبات، والاستقطابات التي تعيد إنتاج القيادات القديمة وثقافتها غير الديمقراطية، ليس بإعادتها إلى الواجهة، وهي في الواجهة بفاعلية إضعاف الشباب، وإنما بتكريسها ثقافة التبعية، كملمح من ملامح الانقياد لسلطة اعلى هي سلطة القات السياسي، الموصولة بهيمنة قوى النفوذ والاحتلال.
إن الوطن المستقل الذي يسعى الشعب لا ستعادة سيادته على أرضه، ليس مساحة جغرافية، ولكنه وطن جديرٌ بأن يكون على قطيعة مع منظومة خراب نظام الاحتلال، وفي صدارتها القات. فإن لم يتم تدشين الغد في هذه اللحظة الثورية، فإن مستقبل الوطن ليس في مأمن، لأنه سيستبدل فرقة أولى “مقوت”، بفرقة أولى “مقوت”، وإن اختلفت الأسماء والأشكال، لكن النتيجة واحدة، هي وطن مثخن بمن استعبدهم القات، وبطبيعة المستعبد فسيكلوجيته جسر إلى ممارسة الفساد والاستبداد بمختلف أشكالهما ودرجاتهما وعلاماتهما الظاهرة والمقدّرة.
(4)
ولعل المتابع من خارج الوطن المحتل، ولاسيما السياسي سيحار إذ يمر بالساحات التحررية العالية الصوت، الرائعة المشهد، الثابتة الموقف، إذْ يرى ما يخدش صوتها، ومشهدها، وموقفها، من أشداق متورمة، لأشخاص يتحدثون عن الحرية والسيادة والاستقلال، وتحت أقدامهم أوراق خضراء مبعثرة، وأكياس بلاستيكية، وهم متكئون يعلفون تلك النبتة ويستحلبونها، حتى تجحظ عيونهم …إلخ، ويفيضون في القول عن مدنيتهم وتمدنهم بموازاة همجية المحتل وتخلفه، في حين أن المشهد غير مختلف، فالمحتل ومن وقع عليه الاحتلال، كلاهما أشداقهم متورمة، وتحت اقدامهم أوراق خضراء مبعثرة، وأكياس بلاستيكية، وهم متكئون يعلفون تلك النبتة ويستحلبونها، حتى تجحظ عيونهم، وليس ثمة فرق إلا في التموضع، فيتساءل في نفسه: عن أيّ مدنية وتمدّن وحرية يتحدث هؤلاء ؟. ولماذا لا يحررون أنفسهم أولاً من سلطة القات، باعتبارها الوجه الآخر للمحتل؟، ثم من أين لمثل هؤلاء تكاليف القات الثقيلة، وهم يتحدثون عن عمليات الإفقار التي تعرضوا ويتعرضون لها، تحت الاحتلال؟ أفلا يهدر القات مال الثورة وإمكانيات الثوار المالية التي لو رُشدت بشكل صحيح لكانت مصدر تعزيزٍ ودفعٍ بالقضية إلى الأمام.
أ ليس جديراً بالشباب – وهم الحاضر والمستقبل – أن يعلنوها ثورة إرادة ضد القات سلطةً وثقافة وسلوكاً؟. إن القات – مع الاحترام الشخصي لمتعاطيه – فيه مسّ بهيمي، يصيب متعاطيه بشكل أو بآخر، بحيث يستسيغ المرءُ منهم أن (ينزقل) أو(ينحذف) في أي مكان، فلحظة الاعتلاف – مع الاحترام الشخصي لمتعاطيه أيضاً – تقبل بالحالة الزريبية، والقبول بها يحيل إلى حالة خارج التوازن البشري عقلياً وفكرياً وسياسياً، فترى المتعاطين يناطحون كل فكرة، ويرافسون أي اجتهاد، وهم لا يلوون على شيء، سوى أن يملأوا الوقت بكلام عابر، هو من نواتج لحظة غير جادة، لأنها لحظة مزاجٍ، وكفى بها من لحظة.
لكن السؤال هو: متى تناقش القيادات والشباب أخطر الأفكار والرؤى المتصلة باتجاهات الثورة ومسارات إنجاز أهدافها؟ الجاوب صادم طبعاً. يناقشونها في جلسات القات!. ولعل قلةً بينهم لا تتعاطى القات تحاول ترشيد الوقت والجهد والنقاش، فيمسها منهم ما يمسها، لينفضّ المجلس عن أفكار لا تغادر هلاميتها، وكثيراً، ما يستمر الجدل حول بضع نقاطٍ ليست مدار اختلاف جوهري، في جلسات تعقبها جلسات، وربما لا يصلون إلى اتفاق يبرر إطالة أمد النقاش والتداول. والشواهد كثيرة ولا مجال للتذكير بها ولا داعي.
(5)
من لم يستطع تحرير نفسه، وامتلاك أو استعادة إرادته، فتراه يسقط جاثياً تحت سلطة القات اليومية، فإنه منقوص الحرية، مستلب الإرادة، وإن رغَى وأزبدَ ثورةً وحريةً وثرثرةً أو تنظيراً في الفراغ. فهل يستطيع المستعبَدون، والمستلَبون، أن يحرروا وطناً محتلاً، ويحققوا إرادة شعبية؟. ذلك هو بعض المعضلة، ولو أضفنا إليه أن مستوى غالبية القيادات والشباب فكرياً في حده الأدنى، فإن الحالة تزداد تعقيداً، الأمر الذي يستدعي تثويراً من نوعٍ ما، قاعدته تحرير الذات اولاً، وأول سلطة ينبغي التحرر منها، هي سلطة القات السياسي، وعندئذٍ ستسقط الفرقة الأولى”مقوت”، أمام استراتيجية موازية لاستراتيجية القات السياسي، هي استراتيجية الحرية الشاملة: حرية الذات، وحرية الإرادة، وحرية القرار، وحرية الوطن، فرشّدوا الموقف من القات السياسي، في الساحات، ترشدوا.