fbpx
حين لا ينفعُ الوصل – د. عبد الله صلاح
شارك الخبر

إن من الشعوب والأمم من حُشر في هذا العالم حشرا، على غرار قول المفكر الفرنسي (مونتاني): “إن من الناس من حُشر في الخليقة حشراً كحرف لا يُلفظ في الكلمة”.

كم هو مؤسف جداً أن تبدو شعوب الأمة العربية محشورة في هذا العالم، كحروف في كلمات لا تُلفظ.  ويأتي في طليعتها الشعب اليمني، الذي يخاصم تاريخه الحديث مصطلحات أو مفاهيم مثل: (المنطق، والحكمة، والنزهة، والتسلية، والزينة، والجمال، والابتهاج, و…). ويحتفي بمصطلحات مثل: (الحرب، والجنون، والكراهية، والقتل، والخراب، و…).

إنه أمر فظيع حقاً، أن تجد شعباً حضارياً وأصيلاً لا يحمل في ذاكرته بذور حياته وتفوقه لمدة قرون من الزمن. خاصة وأن الشعوب الحضارية لا تموت نهائياً، أو لا تطول غيبتها كثيراً، فبريقها إن خفت حقبة من الزمن، سرعان ما يبزغ من جديد وتعاد عافيته. أما حضارة شعبنا اليمني فقد توقف إشراقها منذ آخر عهد الدولة الرسولية، خلال القرن الثامن الهجري وحتى الآن. حيث كانت المفارقة العجيبة أن جميع شعوب الأمة العربية تعيش ما يُعرف بعصر الانحطاط، بينما اليمن السعيد كان يعيش أحد أزهى عصوره إبداعياً وثقافياً وأدبياً. ولن نسترسل في الحديث عن العهد الرسولي، والإتيان بالشواهد والدلائل، فهي ثابتة وقطعية، ومن يريد التحقق من صحة ذلك، فعليه قراءة تاريخ اليمن في عهد الدولة الرسولية، والإطلاع على ما خلفته من موروث ثقافي وأدبي وعمراني ضخم.

ولكن للأسف الشديد بعد ذلك العهد، ظل الإنسان اليمني يعد نفسه ويمنيها فقط بالعيش والحياة، ويتمتم بحمد الله على جوعه وفقره وشقائه واغترابه وصراعه الطويل، منكساً رأسه أمام العواصف المتتالية. ففي مجال الثقافة والسياسة مثلاً، لا نفقه سوى تقليد المقلدين، على قول ووصف الشاعر الكبير عبد الله البردوني أحد أشقياء هذا الشعب وعظمائه معاً في العصر الحديث. الذي سئل حين حاز على جائزة المربد المرتفعة القيمة  -بعد عقود من المعاناة والإهمال- ما تصنع بهذا المال؟، فرد والحسرة تسكن أحاسيسه: “أمَّا الآن فقد جادت بالوصل حين لا ينفع الوصل”.

هكذا لخص الشاعر والمفكر والفيلسوف الكبير البردوني واقعه، الذي لم يذق فيه طعم الحياة الكريمة، ولم يكرم لا حياً ولا ميتاً. في وطن اقترفته الذنوب والحروب والصراعات بحثاً عن آمال ضائعة وأحلام زائفة. في وطن أنهكه التفكير العقيم، والتقليد الأعمى للأعراف والعادات والعصبيات. نعم هكذا عاش الشاعر البردوني -كغيره من اليمنيين- تسلياته كموجعاته، وزاده مثل جوعه، وهجعته كسهاده، وأصدقائه كأعدائه في الأذية.

ولا شك في أن واقعنا اليوم أسوأ بكثير، فالشعب يسير في طريق القهر والإجبار والإكراه، والناس مخلصون في كفرهم بالتعايش وقبول الآخر، ومؤمنون بالشك والقتل والعنف والخراب، ومتلهفون للبكاء والأحزان والخوف، ومقدسون لحكمة الخليفة المنصور “إذا مدَّ عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك وإلا قبلها”، حتى أصبحت حياتنا كلها ما بين تقطيع وتقبيل.

لا أدري إلى متى سيظل هذا الشعب يخضب وجهه ورقبته وجسده بالدم؟ . وإلى متى سيظل أبناؤه يُدبرون عن غانيات الدنيا، ويقبلون على غانيات الآخرة. ويكفرون بأماكن الموسيقى والمسرح والرقص، ويرتادون حوانيت صناعة الكراهية والمفخخات والعبوات الناسفة؟.

إلى متى سنظل هكذا، دون الالتفات إلى أنفسنا وعقولنا، والعمل على تحريرها من الأغلال التي كبلتها، والسجون التي أورثتها الدمامة والقسوة والعذاب؟. فالفكر الصحيح الذي يكتنفه الصدق والولاء للوطن والحرية، والشعور السليم المعافى من الأوهام والآفات كفيلان بعلاج هذا الشعب من أمراضه المزمنة وعاداته الهمجية.

أخبار ذات صله