fbpx
الرَّجْزَة ..فَنٌ يجمع الغناء والرقص

 

علي صالح الخلاقي

الرجزة..فن غنائي للرجال يصاحبه الرقص وينتشر في مناطق شبوة وأبين، ودخل بعض مناطق يافع مؤخرا ليحل محل صفوف (البال والدان) النسائية. وفي الفصيح:” ارتجز الشَّاعرُ: رجَز؛ قال أرُجوزة، قصيدة من بحر الرجز، والرَّجَزُ: ضرب من الشعر وقد رَجَزَ الرَّاجِزُ و ارْتَجَزَ”. أما في يافع فهناك فن المَراجز، مفردها راجز، مرجز، وهي “الزوامل” الرجالية التي تنتظم في المناسبات والأفراح مصحوبة برقصات البرع، والشاعر الذي ينظم أبيات الزامل يُطلق عليه مُترجِّز أو متزمِّل، ومن يرددون الأبيات الشعرية (مترجزّين/ متزمّلين). وفي هذا المعنى يقول راجز لشاعر مجهول يفخر بيافع أثناء المواجهات مع جيوش الدولة القاسمية: قال مترجز عَمَد راس يافع طُول وقته ما ملكته قرانه

بارق النَّصره وراس الشوافع من يكذبني يفتش بيانه

وأعترف أنني أسمع وأعرف لأول مرة بوجود فن (الرّجزة) في يافع، رغم اهتمامي بموروثها وتراثها الشعبي، ففي زيارتي لمكتب السعدي في يافع، دُعيت لحضور (الرَّجزة) التي ستقام في مساء الأثنين 25 أغسطس الماضي في قرية (الظفر) المعلقة في بطن جبل يحمل نفس الاسم وتطل من خلاله بحصونها الشامخة على قرى السعدي العديدة في القمم المقابلة، مثل: الموصف، البارك، جبل السعدي(عمران)، نعمان، أو في الوديان المنبسطة مثل: فَلَسَان، أَريَمة، الخربة، عَبَر، المصنعة، ووادي ذي عسيم الخصيب والمزدان بالخضرة والزراعة صيف هذا العام، وكانت المناسبة زواج الشاب الخلوق شهاب مشهور، وهو نجل التربوي القدير الأستاذ مشهور صالح عاطف السعدي. وعرفت من مرافقي الصديق عادل المعزبي أن الرجزة فن حديث دخل على مكتب السعدي، ويافع عامة، قبل عقدين تقريبا وأصبحت تقام مثلها مثل بقية مراسيم الزواج المتعارف عليها كالشواعة وغيرها. وحين شاهدت الرجزة رأيتها نسخة بديلة أو مشابهة لصفوف الغناء النسائي الجماعي المعروف باسم صفوف (البَال أو الدان) التي كانت من أهم علامات الفرح في الأعراس والأعياد في مختلف مناطق يافع، حيث كن ينتظمن في صفين متقابلين متشابكات الأيدي إلى جانب بعضهن بعضاً وكان الشاعر يدخل إلى بين الصفين ويرتجل الأبيات الشعرية فتلتقطها النساء على الفور من فم الشاعر بصورة تسجيلية ويحفظنها عن ظهر قلب ويرددنها بأصوات غنائية وحركات اهتزازية راقصة بديعة. والرَّجزة، كما رأيتها، غناء جماعي يؤديه الرجال، مصحوبا بالرقص الرجالي الثنائي أو الثلاثي، على إيقاع الطبل وأنغام الناي (القصبة، الشُّبَابة). حيث انتظم الرجال، وجُلّهم من الشباب ، في صفين متقابلين وجهاً لوجه وهم يصفقون أو تتشابك أيديهم ويقومون بحركات اهتزازية على نسق واحد لكل صف، من الأعلى إلى الأسفل، مع انحناء للركبة ثم الاستقامة، وهم يرددون بالتناوب وبصوت غنائي جميل الأبيات الشعرية التي يرتجلها للتو الشاعر الذي يدخل إلى الحلبة بين الصفين ويقولها بصوت مسموع. وقد يرتجل بعض الشعراء عدة أبيات شعرية لإظهار قدراتهم أمام أقرانهم وأندادهم، ولكن المشاركين في الصفين يلتقطون البيتين الأخيرين فقط فيرددونها لفترة حتى يدخل شاعر آخر، وقد يغير المشاركون الألحان التي يرددونها، بين حين وآخر، من نغمة إلى أخرى، لكسر الرتابة وتجديد طاقاتهم، وبين الصفين كانت تجرى الرقصات الرجالية، وفيها رأيت فتيانا وأطفالا صغارا يتعلمون الرقص ويجيدون أداءه ببراعة الكبار. وهكذا يمتزج في هذه الصفوف الشعر بالغناء بالرقص في لوحة إبداعية جميلة تأسر ألباب جموع المتفرجين من الرجال، وربما النساء اللاتي يشاهدن ذلك من وراء ستار نوافذ البيوت المجاورة أو المطلة على الساحة المكشوفة، دون أن يراهن أحد. والحقيقة أنني سررت لهذا اللون الفني، الذي يجد فيه الناس فسحة للفرح والرقص في أفراحهم وأعيادهم والاستمتاع بالمبارزات الشعرية التي يرتجلها الشعراء المشاركين، وأدعو إلى تعميم هذه التجربة في بقية المناطق، وقد شارك من الشعراء المعروفين صديقي الشاعر محسن علي غالب السليماني (أبو سلطان) الذي خصّني بزامل ترحيبي، وكان قد استهل المبارزة الشعرية بتهنئة أصحاب العُرس من آل القبيلة، بقوله: قال ابو سلطان محسن ألف مبروك لأصحاب القبيلة

الثقيلة نرجعها خفيفة والخفيفة نرجعها ثقيله

وكذا الشاعر عبداللطيف فضل هيثم النقيب (الباركي). ومن الشعراء الشباب تألق: باسل صالح محضار (أبو سعد) ومنير سليمان بن سعيد الرأس (أبو صقر) وأخرون. وكانت المبارزات الشعرية تتعرض لقضايا مختلفة تمتزج فيها السياسة والغزل والدعابة. وفيما يلي نماذج منتقاه فقط من بعض ما سمعته وتمكنت من تدوينه، فهذا الشاعر الشاب أبو صقر يصف معاناة الاغتراب: أبو صقر الفتى يا كم ترحل مفارق ديرته وأهله ولخوان

متاعب في حياته كم تحمّل مآسي ما حملها اي إنسان

– ولتسخين المواجهات الشعرية بدأ أبو سلطان براجز استفزازي، وقافية صعبة، يقول: أبو سلطان محسن اللعب نقطة بنقطه

وان حد يخالف كلامي با سي حراسة وشرطه

– فرد عليه النقيب بقوله: قال النقيبي بدأنا على مواطن وسُلطه

وان حَد رماني بطلقه با تحرقه نُصّ شنطه

– ودخل ابو سلطان معقبا على صديقه النقيب (بن عبادي) بقوله: قال ابو سلطان محسن يا ورطتك بألف ورطه

يهوَين مِنْ بَن عُبادي ذي ما دَرِيْ وين خَطّه

– فرد النقيب، مذكرا صديقه ابى سلطان بشعره الذي كان طويلا قبل أن يقُطّه (يقصه) قائلا: وَيْش جاب محسن صديقي يلعب ومن دون خِطّه

ذي كان ناسع جعيده وقبل يومين قَطّه

– ودخل الشاعر الشاب ابو سعد متذمرا من هذه القافية الجامدة، فقال: يقول أبو سعد سَيْنا عشرين شُخطِي بشَخطه

جبتوا لنا قاف جامد وكل من جاه مَطَّه

– والشُخطي هو عود الثقاب والشخطه علبة الكبريت، وهناك اشعار كثيرة، بألحان واصوات مختلفة، لم أتمكن من متابعتها لسرعة دخول الشعراء، واختتم هذه القافية أبو سلطان بقوله: يقول أبو سلطان محسن لو لي حكومه وسُلطه

ماسي بباني مفاجر يبني بياجور لُقطَه

– ومن المراجز الرمزية ، قول الشاعر أبو صقر، على قافية أخرى: قال أبو صقر قلبي يحِبّ ثنتين وأربع

لكن قَسَم ما تقنّع لمَّا قد السّت ترجع

– والست التي يقصدها الشاعر هي المحافظات الجنوبية الست ، وهو هنا يحث على استعادة الدولة والاستقلال بعد فشل تجربة الوحدة. ومن المراجز الرمزية على قافية أخرى طويلة ولحن آخر،قول الشاعر الباركي: يقول الباركي لَجل الصهاره وصلنا عند مسئول الأمانه

نقشناها حجر سوداء ظُهاره وباني الويل رجّعها بطانه

– ومسك الختام نختم هذه المختارات بالسلام على الناس جميعا ، كما جاء في راجز رمزي لأبى سلطان يعبر عن تفرق كيانات وقوى الثورة الجنوبية: يا سلامي على الناس جَمعا واقطفوها يا الحبايب شَنِيْنِه

كيف باسي لا قد الناس جوعا كل واحد يتّصل من كبينه

وقد استمرت الرّجزة من بعد العشاء وحتى بعد منتصف الليل، تخللتها فترة استراحة قليلة لتناول العشاء، وفي ظهر اليوم التالي اتجهنا برفقة موكب العريس (الشواعة) في عدد من السيارات إلى قرية (شعب العرب) من مكتب اليزيدي، وهناك انتظمت زوامل شواعة العريس والمرحبين يتقدمها راقصو (البَرع) على إيقاعات الطبول والطاسات، وانتهت الفرحة بعودة موكب زفة العريس وعروسته في أجواء ممطرة، وزاد من روعتها رفاق الرحلة الرائعين: عادل المعزبي وعبدالقادر بن جرادي ومحمد علي حيدرة بن سعيد الراس. وقد استمر هطول الأمطار بغزارة، طوال الطريق التي قطعناها في الأودية والمنعطفات، وتدفقت السيول من الجبال والوهاد، وارتوت الأرض والزرع، وانتعشت النفوس، وزادت الفرحة والسرور والحبور.