fbpx
منطقة شريان بيافع تاريخ مُشَرِّف وأصالة في العمران
شارك الخبر

كتب : علي صالح الخلاقي ..

شريان..قرية جميلة من قرى يافع – مديرية رُصد، تقع في بطن الجبل المقابل لقمة القارة الحصينة من جهة الغرب، وتطل بمهابة وشموخ حصونها وبيوتها على وادي رُصد الذي يمتد أسفلها ويتسع أكثر كلما اتجهنا إلى رُصد.
يسكن شريان المقافع (آل المقفعي) الذين ينتمون قبليا إلى مكتب السعدي، واشتهروا بالتجارة إلى جانب الزراعة، حيث ظلت شريان محطة تجارية هامة لقربها من عاصمة السلطنة العفيفية (القارة) وعُرفت بكثرة حوانيتها التي كانت تمون مناطق كثيرة من مكاتب كلد والسعدي واليهري، ثم فقدت أهميتها التجارية بعد الاستقلال الوطني عام 1967م لصالح (رُصد) الناشئة حينها في الواد الذي يحمل نفس الاسم، ويمتلك معظم أراضيه الزراعية سكان شريان من المقافع، وأصبحت رُصد منذ ذلك الحين عاصمة إدارية وتجارية لسلطة ما بعد الاستقلال في المنطقة، ومع ذلك فلم يفرط المقافع بالتجارة التي خبروها وعرفوا أسرارها، بل تمسكوا بها وأصبح لهم وجود يشار إليه بالبنان حتى اليوم، كما تبين واجهات المحلات التجارية في سوق رُصد .
—————
سنة القنابل
—————
وفي صفحات التاريخ الوطني المجيد سجلت شريان وآل المقافع موقفا مشرفا ضد الاستعمار البريطاني، ووقفوا بقوة مع السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي، إلى جانب غيرهم من أحرار يافع، وجراء هذا الموقف تعرضت شريان وقرى أخرى كثيرة للقصف الجوي من قبل الطائرات الحربية البريطانية أكثر من مرة، كان أشدها القصف الذي تعرضت له شريان وغيرها في 29 ذي القعدة 1377هـ الموافق 17 يونيو 1958م واستمر لمدة ثلاثة أيام متتالية ودُمرت فيها أربعة حصون وأماكن أخرى متفرقة، وجراء هذا العدوان والقصف الجوي اضطر سكان شريان وغيرهم من سكان المناطق الأخرى التي تعرضت للقصف مثل فلسان والمخدرة وغيرها للعيش في كهوف الجبال، ويسمون ذلك العام (سنة القنابل).
ولقد أعاد المواطنون ما دمرته طائرات الاستعمار البريطاني بتعاونهم وتكاتفهم، وخلال العقود الماضية التي تلت الاستقلال الوطني توسعت القرية كثيرا، حيث شُيّدت العديد من الحصون والبيوت الجديدة، وامتد التوسع العمراني إلى جوانب الوادي في الأسفل.
ومما يبهج النفس ويلفت الأنظار أن قرية شريان حافظت على نمطها المعماري اليافعي الفريد، ولم تصاب بعدوى العمارات الاسمنتية الدخيلة والغريبة، الخرساء والبكماء، التي داهمت عاصمة المديرية رُصُد وبعض القرى المحيطة بشكل ملفت، إلا في حالة وحيدة في أطراف القرية القديمة، وينبغي على الغيورين في يافع عامة التنبه لهذا الخطر الداهم الذي يهدد خصوصية وأصالة العمارة اليافعية الفريدة، التي لا مثيل لها في العالم أجمع.
ولهذا فقد لفتت قريان شريان انتباهي بروعتها وشموخها، وبخصوصية نمطها المعماري الأصيل وارتفاع بيوتها إلى أربعة وخمسة أدوار حجرية، متوجة بالتشاريف التي تزينها من الأعلى، فكانت محطتي الأولى في زيارتي إلى رُصد، برفقة المشاركين في المخيم الطبي المجاني الذي اقيم خلال الفترة من 23-28 أغسطس الماضي، بإشراف الجمعية الخيرية اليافعية وبدعم سخي من مؤسسة الفقيد أحمد بن عبدالحكيم السعدي ومجموعة الشيخ علي عبدالله العيسائي وآخرين.
———————-
تحفة معمارية
———————

10402569_835679776462758_8031767671569272227_n
اتجهنا صباح السبت الموافق 23 أغسطس الماضي بسيارة الصديق سالم علي عمر، رئيس جمعية كلد مع عدد من الأصدقاء، وتوقفت بنا السيارة في أسفل الوادي، وفضلت ارتقاء الطريق الجبلية المؤدية إلى أعلى القرية مشياً على الأقدام، برفقة أول من صادفناه من ابناء القرية اسمه (مطيع)، وأثناء الصعود توقفت منبهراً أمام جمال الحصون البديعة، وشدني أكثر أقدم حصون القرية، الذي ما زال يقف بمهابته وجمال بنائه وزخارفه متربعا في أعلى موقع من القرية، وعلمت أنه بيت المرحوم الشيخ محمد مسعود المقفعي وأخيه يسلم، وهو يتكون من بيت مُرَبَّع مع تطليعة ملحقة به، أضيفت لمواجهة توسع الأسرة وازدياد أعدادها، وقد بُنيت بنفس الحجر الرمادية اللون، فبدت متناسقة معه وكأنهما شُيِّدا في وقت واحد، وقد ازدانت واجهاته بنقوش مستطيلة من حجارة المرو البيضاء، تفصل بين طوابقه الأربعة، إضافة إلى تشكيلات أخرى مثلثة وبيضاوية على جوانب الواجهات مطرزة بإتقان بحجارة المرو المتميزة بسطوعها، كما تمتاز نوافذه الخشبية، ذات الفتحتين، بجمال النقوش والزخارف المحفورة فيها، وفي الأعلى ترتفع التشاريف الهرمية التي توحي باكتمال بناء البيت اليافعي، وقد تهدم بعضها جزئيا أو كليا.
من منظره الجميل ظننت أن هذا الحصن الضخم ، كما يوحي شكله، مأهول بالسكان ويعج بالحياة والنشاط، وحين دخلناه، عرفت أنه مهجور، لا يسكنه أحد، إذ تفرقت العائلات التي كانت تسكنه، بعد تكاثرها، وانتقلت إلى مساكن جديدة، فبقي مهملا، وخالٍ من السكان رغم صلاحيته للسكن.
وللبيت بوابة جانبية خاصة بالمنزلة التي كانت مخصصة للضيوف وجلسات السمر، وليس لها عقد يعلوها، وبوابة فرعية خاصة بالتطليعة، أما البوابة الرئيسية للبيت فيعلوها عقد تتوسطه دائرتان وقد طمست النقوش والزخارف التي كانت تزينهما من حجارة المرو، وذلك عند ترميم العقد بالإسمنت فتشوه جماله الأصلي البديع، وتعلو الدائرتين فتحة شبة مربعة مولجة إلى الداخل وتبدو فيها حلقة حديدية كان يعلق فيها مصباح الإنارة. وسدّة البوابة الرئيسية مصنوعة من أشجار العلب القوية والسميكة التي لا تخترقها الرصاص، وقد ازدانت بزخارف محفورة على واجهتها، مع تشكيلات ورسوم منحوتة بطريقة الحفر بدقة واتقان في المدماك الخشبي أعلى الباب، وفيه يظهر منحوتا تاريخ صنع الباب في جماد سنة 1306هجرية، واسم صانعه أحمد عبدالله غفر الله له ولوالده، وهذا يعني أن عمر المنزل 130 عاما.
دخلنا إلى عدد من غرفه، فانبهرنا أمام ثراء وتنوع النقوش الداخلية البديعة، المتمثلة بالعقود المختلفة الأشكال التي تعلو فوق النوافذ وفوق الأولاج (جمع: ولجة) وهي فتحتات تقوم بوظيفة الرفوف لحفظ الأدوات المنزلية ذات الاستخدام اليومي، كما زُيّنت الأخشاب الكبيرة بنقوش منحوته في واجهاتها الظاهرة بطريقة الحَفر، وحين دخل الطلاء بألوانه المختلفة زُيّنت الأخشاب والأبواب الداخلية بتشكيلات فنية متعددة ملفتة للانتباه. ورغم طمس بعض هذه النقوش، وتشقق بعضها بفعل الأمطار والإهمال، فقد بقي الكثير منها، وهي تعكس الذوق الفني الرفيع الذي نفتقده في واجهات بيوتنا في الوقت الحاضر.
—————-
إهمال غير مبرر 983789_835678109796258_1017743896131769724_n
—————–
هذا الحصن القديم والجميل، بعد أن هجره أهله أصبح بغرفه العديدة مخزناً متعدد الأغراض، رغم أنه ما زال صالحا للسكن، ويقاوم بشموخه وقوته الاهمال الذي يلقاه من قبل ملاكه، وتكاد سقوفه وجدرانه تصرخ قائلة لهم (واغوثاه). فجرَّاء هذا الاهمال تشقق جزء بسيط من سقفه المُمَلَّط بالإسمنت بفعل هطول الأمطار الموسمية، ولأن أحدا لم يسد هذه التشققات حال ظهورها، أخذت المياه تتسرب منها، ثم تحولت تدريجيا، بمرور السنين، إلى فجوة صغيرة تندفع منها مياه الأمطار من السقف إلى الطابق الذي يليه في الأسفل، وهدّت جزءا أكبر من سقفه، وقد تهدد بقية سقوف الطوابق السفلى وتؤتي على المسكن بكامله إذا ما استمر هذا الإهمال، وأنا على يقين أن البيت لو كان مأهولا بالسكان لعالجوا الخلل البسيط في حينه، قبل أن يستفحل إلى هذا الحد.
وما زال هذا التهديد في بدايته، ويمكن السيطرة عليه وتجنبه بتكاليف أقل، ولهذا ندعو أهالي وملاك هذا الحصن الأثري البديع إلى وقف هذا الخطر، من خلال الاسراع بإعادة ترميم ما لحق بسقف طابقيه العلويين من تهدم جزئي ، وكذا التفكير لاحقا بترميم البيت من الداخل والخارج بطريقة لا تؤثر على شكله الهندسي وزخارفه ونقوشه، وتفقده بين فترة وأخرى، واحكام إغلاق نوافذه، حتى لا يظل مرتعا للخفافيش أو محمية للدبابير (الحُرّب) التي تستوطنه حاليا.
وقد سُررت أن هذه الدعوة قد وجدت صدى لها، إذ علمت أن أصحابه، وهم ميسوري الحال وأهل تجارة في رُصد، ما أن عرفوا بأمر زيارتي وملاحظاتي التي أبديتها أثناء زيارتي لقريتهم، حتى عقدوا النية لترميمه والحفاظ عليه.. وأقول لهم: شكرا لكم على تجاوبكم السريع، وأنتم بفعلكم هذا لا تحافظون على مجرد مبنى سكني قديم فقط، بل أن أهميته تتجاوز ذلك إلى قيمته الفنية والأثرية والتاريخية، كتحفة معمارية متميزة، تعكس التطور الحضاري والفن الهندسي والمعماري للآباء والأجداد، وقد أودعوها أمانة في أعناقنا، ومن واجبنا الحفاظ على ما بنوه، وكأني أسمع لسان حالهم يخاطبنا بقول الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار

1601197_835679286462807_8307286664116757666_n 10356267_835677423129660_4117277448979077950_n 10649935_835679623129440_1884335820345609317_n

أخبار ذات صله