fbpx
الفقيد يسلم يوسف الخالد حيا وميتا

د عيدروس نصر ناصر

اليوم بلغني خبر وفاة صديقي وأخي وزميل رحلة الأحلام الجميلة والمعاناة المشتركة العقيد يسلم يوسف علي المنصري (أبو وضاح) الذي صارع مرضا خبيثا على مدى ما يزيد على ست سنوات متتالية، كان يقضيها ساخرا مبتسما عنودا ودودا مرحا وهو يعلم أن الداء يلتهم أيام عمره لكنه لم يكن يأبه لذلك وقال لي ذات مرة: من يضمن لي أو لغيري أن الموت لن يفاجئنا في أي لحظة حتى بدون مرض خبيث وبدون جلطة أو سكتة قلبية؟

نشأ يسلم يوسف ونما في خضم التحولات الثورية التي شهدها الجنوب، وقد انخرط مبكرا في الحرس الشعبي ثم القوات الشعبية وأخيرا الميليشيا الشعبية، ومما أتذكره أنني وفي أول اجتماع موسع لشباب الجبهة القومية في مديرية رصد (وكانت حينها مركزا) ضمن المديرية الغربية لمحافظة أبين في مطلع السبعينات، قدم رئيس الاجتماع شابا غضا متفتحا بالكاد بدأت علامات زغب الشارب واللحية تنبت على وجهه لكن ملامح الذكاء كانت بادية عليه، كان الشاب في حوالي العشرين من العمر جرى تقديمه  على إنه قائد المليشيا الشعبية في رصد، ذلك هو الشاب يسلم يوسف علي، ولم يكن حينها أحد يسأل إن كان منصريا أو كلديا أو يافعيا فيكفي أنه يحظى بثقة رفاقه ويؤدي وظيفته على ما يرام،  كان ذلك في فترة تأسيس الميليشيا الشعبية وقد قاد الشاب يسلم فترة التأسيس بنجاح وتحت قيادته تدرب وتخرج المئات من الشباب الذين غدا منهم القائد العسكري والموجه السياسي والخبير في التكتيك العسكري وخبراء الصواريخ والدبابات والمدفعية والهندسة، وغير ذلك من التخصصات العسكرية التي كونت جيشا عريضا من الكفاءات الوطنية الفائقة.

تتلمذ الفقيد يسلم يوسف على يد الشهيد ثابت عبد والشهيد حسين قماطة والفقيد محمد القيرحي وتدرج في المهام والرتب العسكرية  من جندي إلى ملازم إلى مقدم إلى عقيد ومن قائد المليشيا الشعبية في مركز رصد إلى قائد المديرية الغربية ثم نائب قائد المحافظة للشئون السياسية وتنقل بعد ذلك في الاحتياط العام وفي الدفاع المدني، وبعد العام 1990 انتقل إلى تعز للعمل كقائد للاحتياط العام في المحافظة، كما تلقى عددا من الدورات التدريبية في مدرسة الشهيد عمر علي وفي أكاديمية العلوم الاجتماعية بالعاصمة البلغارية صوفيا وكان على الدوام من المتفوقين والمنضبطين بين زملائه وكل هذا أهله للنجاح في كل المواقع العسكرية التي تبوأها.

كان يسلم يوسف نموذجا للقائد العسكري المتقد طاقة وحيوية والمملوء وطنية وإخلاصا والمتسلح بالتواضع والصدق والطموح الكبير، كما تشرب بأخلاقيات وقيم تلك المرحلة من النزاهة والإيثار والروح الفدائية ونكران الذات والانحياز إلى المظلومين ورفض الضيم والقهر والمجاهرة بالانتصار للحقيقة مهما كلفه ذلك، . . .لم يفكر يسلم كيف يصير مليونيرا أو مستثمرا كبيرا أو صاحب  أرصدة مالية ضخمة ولا حتى مالك بقالة صغيرة أو سيارة أجرة، لكنه كان يحلم بوطن كبير آمن مستقر يسوده السلام والمحبة ويظلله العدل والمواطنة المتساوية، ويعيش أبناؤه أمنين من مخاوف الفقر والمرض والإرهاب والبغضاء والتنكيل والتمييز.

بقي الفقيد في مهمته في محافظة تعز حتى العام 1994م، العام الكارثة، حيث سرح من عمله مثل عشرات الآلاف من الكفاءات الوطنية الجنوبية، وبقي في منزله يقاوم حاجات الحياة ومتطلباتها بصبر الشرفاء وكفاح المتقين ومثابرة المناضلين الأشداء.

يسلم يوسف مولع بالقراءة فلا يجد كتابا إلا ويلتهم ما فيه في ساعات وإن تأخر في أيام، كنا نلتقي لنتحدث في أمر ما فلا يخلو تعليقه على هذا الأمر من الإشارة لمقولة الكاتب الفلاني أو الشاعر الفلاني أو المفكر الفلاني، واعترف أنه من لفت نظري إلى العديد من دواوين الشعر وكتب السياسة والمقالات والبحوث المنشورة في بعض الصحف والمجلات المحلية والعربية، ومن هذا الخضم بنا يسلم ثقافة واسعة وطور موهبة شعرية قائمة على القصيدة العامية التي تناول فيها الكثير من القضايا والظواهر والمشاعر الشخصية، ومعاناته وسواه مع الحياة القاسية خصوصا بعد العام 1994م وما تركته في حياة ضحاياها وهم مئات الآلاف من الأسر الجنوبية التي وجدت نفسها بلا ذنب جنته خارج المعادلة المجتمعية والاقتصادية، ناهيك عن المعادلة السياسية التي استحوذ عليها مغول 1994م.

حظي الفقيد أبو وضاح بسمعة طيبة بين كل الذين تعرفوا عليه، سواء من اختلفوا معه أو من اتفقوا معه، وكان ممن يحترمون فن الاختلاف ويفصلون بين الإنساني والسياسي، فلم يكن قط ممن يحولون الخلاف السياسي إلى عداوات أبدية، كما كان يحترم كل الذين اختلف معهم في مواقف سياسية معينة وفي مراحل تاريخية معينة، ولهذا فقد حظي باحترام وتقدير وحب كل الناس من حواليه، باستثناء القلة القليلة ممن لا يميزون بين الاختلاف والعداوة وهؤلاء لا يعتد بحضورهم.

في السنوات الأخيرة عانى الفقيد يسلم مرضا خبيثا اصاب جزءا من دماغه وشل جزءا من نشاطه لكنه ظل ودودا مبتسما مرحا ساخرا يقاوم الموت البطيء بصبر الثائرين وعزيمة المؤمنين، وبعد خضوع لعلاج طويل انتقل إلى رحمة ربه صبيحة يوم الجمعة 18/7/2014م في مستشفى الجمهورية بعدن.

يسلم أب لولد وست بنات جميعهم خريجون من جامعة عدن رباهم فأحسن تربيتهم وجعل منهم كفاءات لها مكانتها في المجتمع رغم ما مر به من ظروف قاهرة ومصاعب مادية

رحمة الله تغشاك أبا وضاح وندعو الله أن يغفر لك ويعفو عنك وأن يسكنك الجنة مع الشهداء والصديقين وأن يلهم أهلك وذويك ويلهمنا جميعا الصبر والسلوان و”إنا لله وإن إليه راجعون”.

برقيات:

*    ببالغ الأسى نتقدم بصادق العزاء للأخت المناضلة خولة أحمد شرف عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني والدة الشهيد حسام عبدالواسع وإلى أسر الفقيد علي بن علي اليزيدي الذين اغتيلا على يد جماعة ملثمة من مرتادي الدراجات النارية ونسأل الله أن يتقبل الشهيدين بواسع رحمته، وأن يلهم أهلهما وذويهما الصبر والسلوان.

*    خاطرة شعرية:

أبا وضاح أني الـــــيوم أنعي           مــماتي في حــــياةٍ لا أراها

لأنك كنـــت لي أفـــقاً وضوءً           بهِ أزهو إذا غـــيري تباهى

وانت اليوم تتركني وتمضي           وحـــــــيداً بائسا أدعو الإلها

 لعل الله يســـــــــعفني بصبرٍ          ويسكنك الجنان وما حواها