fbpx
القضية الجنوبية وسؤال الهوية (8)

د. عيدروس نصر ناصر

يقتضي الأمر في البدء الاعتذار للقراء الكرام الذين يتابعون هذه السلسلة من المقالات عن الانقطاع لما يزيد عن شهر عن مواصلة تناول واستكمال إشكالية الهوية في القضية الجنوبية،  لأسباب شخصية صرفة منعتني من القيام بأي عمل كتابي عموما، وها أنا أواصل ما كنت وعدتهم به لاستكمال بحث هذا الموضوع إلى النهاية.

   *        *        *

 يتداول العدنيون طرفة تقول أن أحد أساتذة جامعة عدن سافر إلى صنعا لمتابعة بعض المعاملات (تسوية درجته بعد الحصول على الدكتوراه وما يتصل بذلك) وقد أمضى عدة أشهر يتنقل بين وزارة وأخرى وإدارة وأخرى وبين قسم وآخر ومكتب وآخر في المكاتب الحكومية في صنعا واضطر للعودة مرارا إلى عدن لبيع بعض أملاكه للحصول على نفقات المتابعة (وحق ابن هادي وما في حكمه) وعندما سأله بعض أصدقائه : إلى أين وصلت في المتابعة؟ أجاب عليهم بسخرية (معروفة عنه) يا إخواني هناك مشكلة عندما تكون عاصمة بلادك في دولة شقيقة؟

هذه الطرفة تلخص شعور كل جنوبية أو جنوبي يضطر للذهاب إلى العاصمة لمتابعة أي معاملة مهما صغرت، فالموظف  الجنوبي الذي كان يحصل على الترقية أوتوماتيكيا بمجرد انقضاء الفترة الزمنية المستحقة والذي كان يبعث مؤهلاته الجديدة وشهادات التخرج وما شابهها بالبريد إلى وزارته ويحصل على التسوية بطريقة أوتوماتيكية ويستلم مستحقاته في الشهر التالي أو بعد شهرين في أسوأ الاحتمالات ومن تاريخ الاستحقاق وليس من تاريخ صدور القرار، صار عليه أن يقضي  أشهرا بكاملها يتنقل بين المكاتب  والوزارات والإدارات والأقسام وأن يمرر أوراقه لعشرات وأحيانا مئات  التوقيعات وقد يدفع مئات الآلاف من الريالات من أجل تسوية وضعه بل وقد يتعرض لكل هذا ويطلع بنتيجة صفرية نظرا للبيروقراطية والفساد والرشوة والعشوائية وغياب النظام، وباختصار لقد أصبح الموظف الجنوبي غريبا عندما يطالب بحقوقه وغريبا عندما يقبل ما يمنح له من فتات من قوى النفوذ في صنعاء.

قد يقول قائل أن هذا يعاني منه الشماليون مثلما يعاني منه الجنوبيون، وهذا القول صحيح لكن هذا الوضع وهو خطأ من الأخطاء الإدارية القاتلة كان مألوفا للمواطنين في الشمال وموظفو الدولة لا يتجاوز عددهم الخمسة بالمائة من السكان، أما الجنوبيون الذين كان أكثر من 50 % منهم موظفين لدى الدولة فلم يعرفوا هذا الوضع والتعامل به إلا بعد 1994م وهو المكسب الذي حققته لهم “الوحدة المعمدة بالدم”.

*   *   *

من مصاعب البحث في إشكالية الهوية في اليمن أن الباحث يقف أما حالة انفصامية غير قابلة للتحليل والتفكيك إلا بالعودة إلى السياقات التاريخية لصيرورة الأحداث في هذا  البلد والتنقيب عن مجموعة من المعطيات التي تساعد الباحث على البرهان على ما يمكن اعتباره استنتاجات وخلاصات فكرية وسياسية لموضوع الهوية، وقبل الخوض في ما خططنا لتناوله في هذه الحلقة أود الإشارة إلى أن ما أردناه من هذا البحث  هو دراسة إشكالية الهوية الجنوبية في ظل الوضع غير السوي الذي أنتجته حرب 1994م وما تبعها من سياسات غير رشيدة أوصلت الجنوب واليمن عموما إلى الدرك الأسفل من مستويات المعيشة والخدمات والأمن وكل ما يتصل بهذا.

حول إشكالية الهوية الجنوبية والهوية اليمنية.

هناك حالة من المفارقة المنطقية وعدم الانسجام بين ما يفترض أن تمثله الهوية اليمنية الواحدة لكل اليمنيين وبالتأكيد للجنوبيين كمواطنين يمنيين (مفترضين)، وبين حقيقة الواقع المر الذي يعيشه المواطنون الجنوبيون منذ العام 1994م، والمتمثل في الشعور بالانسلاخ من الهوية اليمنية المفترضة وطغيان الإحساس الشديد لدى غالبية ساحقة منهم بعدم الانتماء إلى هذه الهوية (اليمنية) وبالتالي التمسك بهوية أخرى يعتقد المنتصرون في حرب 1994م أنهم قد شطبوها من الوجود، وهي الهوية الجنوبية.

إن هذه المفارقة لم تنشأ من فراغ بل إنها نتيجة طبيعية لوضع مختل غير قابل للاستقامة وهو وضع الاحتلال الذي يعيشه الجنوب بعد الحرب، فالجنوب الذي عاش عقودا بهوية واحدة شملت تقريبا السواد الأعظم من السكان، قد وجد نفسه فجأة في كيان متعدد الهويات وصار مطلوبا منه (أي من الجنوب) أن يحذو حذو هذا الوسط الذي ابتلعه، لكن مقابل التخلي عن هويته الواحدة والقبول بهوية وهمية لا وجود لها على الأرض.

لقد اعتقد الذين احتلوا أرض الجنوب في العام 1994م بأنهم قد احتلوا وجدان ومشاعر وأرواح الناس، وكانت تلك هي الغلطة القاتلة التي وقعوا فيها، أو أوقعهم فيها من قال لهم أن الجنوبيين سيستقبلونكم بباقات الورود، لقد جاءت نتائج الحرب بوضعية معوجة تقوم على ادعاء المنتصرين بأن لهم الشرعية في التحكم بمصير المواطنين الجنوبيين ومن ثم بأرضهم وثروتهم ومستقبلهم وتطلعاتهم، لكن على الصعيد العملي جرى التعامل مع هؤلاء المواطنين كدخلاء داخل أرضهم، فبعد أن تم تسريح مذل ومستفز للغالبية الساحقة من كوادر وعمال وجنود وضباط وموظفي الدولة الجنوبية والتعامل معهم كأعداء منهزمين، جيء ببدائل لهم من خلف حدود الدولتين (ما قبل التوحيد الاندماجي) لا بل لقد سلب من هؤلاء كل ما حققه لهم النظام السابق، من خدمات ومصالح وامتيازات، وفجأة وجد المواطنون الجنوبيون أنفسهم مجردين من كل وسائل الحياة العادية، بل لقد كان على ابن عدن أو أبين أو لحج أو حضرموت، لكي يوسع منزله بإضافة غرفة أو غرفتين على أرض آبائه وأجداده (إن تيسر له ذلك)، كان عليه أن يحصل على ترخيص من مهدي مقولة، أو محمد اسماعيل أو محمد علي محسن أو يحيى محمد عبد الله أو من في حكمهم، وفي كل الأحوال يضطر أن يدفع لهؤلاء الملايين كي يبني غرفة إضافية بجانب المنزل الذي ورثه من أسلافه.

ولم يستفد أحد من الجنوبيين من الوضع الذي أنتجته الحرب إلا قلة قليلة ممن اصطفوا إلى جانب المنتصرين وسهلوا لهم مهمتهم في تدمير ونهب الجنوب، وحتى هؤلاء جرى التخلص منهم بعد سنوات قليلة والبعض بعد أشهر، وهو الأمر الذي راكم لدى الجنوبيين الشعور بالغربة داخل أرضهم وفي وطنهم ودفعهم إلى التشبث بهوية افتقدوها، في محاولة لإعادة إحيائها من جديد.

وللحديث بقية

برقيات:

*    الحركة (البايخة) التي افتعلها أنصار الرئيس علي عبد الله صالح ضد وزير الشئون القانونية د محمد المخلافي، لا تعبر عن ذكاء في إدارة الصراع السياسي وإنما تعبر عن هبوط أخلاقي، وغباء سياسي وفعل مشين لا يقدم على ارتكابه إلا رجال العصابات وتجار الممنوعات في صراعهم مع بعضهم.

÷    قال الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان:

سَيَـــــظَلُّ شَعْبِيْ  مِثْلَمَا عَايَشْتُهُ       شَهْمَاً كَسَبْتُ  عَلَيْهِ  كُلَّ  رِهَانِ

لاَ يَسْتـــــَقِرُّ بِهِ  أَخُوْ صَلَفٍ  وَلاَ      يُفْـــضِيْ  بِهِ  صَبْرٌ إِلَىْ  إِذْعَانِ

وَضَعَ  الْسِّيَاطَ  بِكُلِّ  وَجْهٍ  فَاجِرٍ      فحَـــشَتْ  عَلَيْهِ  نَذَالَةُ  الْطُّغْيَانِ

مَا أَفــْلَحَ  الْكَذِبُ  الْكَبِيْرُ  بِهِ  وَلاَ    جَازَتْ  عَلَيْهِ  كَـــــهَانَةُ  الْكُهَّانِ