fbpx
قراءة في قصيدة ” علبة لم تعرف الصمت ” للشاعرة لارا الظراسي بقلم / هايل المذابي – اليمن
شارك الخبر

أولاً / النص

” علبة لم تعرف الصمت ” – لارا الظراسي

“وضعت سري الصغير

في علبة

غلّفتها بصمت العمر

غرستها في قلبي

وتركتها في خزانة النسيان

حتى نضجت

وعندما جئت إلي

أعطيتك علبتي بفرح

فتحت سري لعينيك

أذنيك

قلبك

بعد أيام جاءت نسوة المدينة

يحملن العلبة

يأكلن ما فيها

بملعقة السخرية …

البارحة رأيت أطفال القرية

يلعبون كرة القدم

بصندوقي الأثير

كان الطريق الذي يستند عليه المشايخ

في حجيجهم

يستند بدوره على علبتي المتسخة

الجميع عرف السر

شكرا لك

فقد علمتني كيف ادفن السر في الريح….”

ثانياً / القراءةhany

لعل القول الذي ينفي وجود القصة والحكاية في تاريخ الأدب العربي قول خاطئ ، لأن ظهور الشعر العربي سبقه ظهور السجع، وهذه المراحل كانت من أجل شيء، هو الحكاية، وكان أسهل طريقة لحفظ حكايات العرب في ظل غياب التدوين في تلك العصور هو اختراع الشعر، الذي أعلن العرب عن بداياته بمائة وخمسون بيتاً من الشعر، للمهلهل بن أبي ربيعة الشهير بـ” الزير سالم “، ثم ما تلاه من معلقات ، ودليل ذلك أن البحور لم تكن معروفة، وليس هناك تفعيلات عروضية، وإنما خلقا وإبداعاً ..

الشيخ الذي كان يروي دائماً كان يسمى الشيخ ” الكنتي ” من كُنتُ التي يرددها دوما حين يحكي قصصه وحكاياته للآخرين، وهكذا كانت الحكاية تجري في شراريين الأمة، في ذلك العصر، وفي كل شعب، ليأتي الشعر قالباً يحفظ الحكاية، ويكتب لها الخلود، وبدون الحكاية لا يصبح للقصيدة معنى أو وزناً، ولذلك أؤكد أن الحكاية والقصة وجدت قبل أن يوجد الشعر لدى العرب، والقرآن يقول :” نحن نقص عليك أحسن القصص ” ولفظة ” أحسن ” من أفعل التفضيل ..

في القصيدة أعلاه ” علبة لم تعرف الصمت ” للشاعرة لارا الظراسي حكاية السر الذي حفظته في علبة منذ صغرها تقول : “وضعت سري الصغير / في علبة / غلّفتها بصمت العمر /  غرستها في قلبي  / وتركتها في خزانة النسيان / حتى نضجت /  وعندما جئت إلي /  أعطيتك علبتي بفرح /  فتحت سري لعينيك /  أذنيك /  قلبك ….”

ما هي الأسرار الصغيرة التي نخفيها عن الآخرين في الصغر ..؟

العلبة رمز للحرص، رمز لما نخاف أن تراه العيون ، فعلب الليل مثلا ستر لمن يشربون الخمرة في البلاد التي يمنع فيها تعاطي الخمور…

لكن يظل كل شيء مبهم ولا نستطيع التكهن بشيء إلا في الفقرات التي تلي الثمانية أفعال الماضية التي تستفتح بها الشاعرة حكايتها الشعرية ليتكشف من ثم في المقطع التالي : ” بعد أيام جاءت نسوة المدينة / يحملن العلبة /  يأكلن ما فيها  / بملعقة السخرية …” ..

” بعد أيام ” من لقائها بهِ جاءت نسوة المدينة، نسوة المدينة رمز يحيل إلى قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم وهو تناص للدلالة على إثبات شيء كبير وعظيم ونقله من عالم الشكوك والارتياب والسخرية إلى عوالم التأكيد والإثبات ونفي اللوم عن الذات من قبل الآخرين مثلما فعلت امرأة العزيز في القصة ، لكن هنا يأتي الفعل ” يأكلن ” ليحدد ماهية ما في العلبة أو يشير إلى رمز آخر يتضح بالقول ” بملعقة السخرية ” …

إنهن يأكلن لحمها وسرها الذي ظنت أنه بمأمن عندما أفشت به إليه لكنه أي سرها يصبح غنيمة نسوة المدينة ومبعث سخريتهن ليس فقط من السر وإنما من الحالة بأكملها حالة الثقة التي أولتها له وفرط فيها وحالة تباهيها بوجد ما طال انتظاره من صغرها، إنه تشبيه بليغ ورائع جدا القول ” بملعقة السخرية ” إنها السخرية من الخيبة التي آل إليها حال الشاعرة وحالة لا تُحسد عليها من الشماتة وأمور أخرى لا يفهمها سوى النساء فقط ..

يتبع ذلك في القصيدة وصف لحالة انتشار محتوى العلبة ” السر ” فتقول الشاعرة : ” البارحة رأيت أطفال القرية /  يلعبون كرة القدم /  بصندوقي الأثير /  كان الطريق الذي يستند عليه المشايخ /  في حجيجهم /  يستند بدوره على علبتي المتسخة /  الجميع عرف السر / شكرا لك / فقد علمتني كيف ادفن السر في الريح….”

إنه وصف بليغ للخبر التي ينشر بين الناس فيحرفونه ويضيفون له ما يروقهم حتى يتحول الأبيض إلى أسود والأخضر إلى أزرق والطهر إلى عهر كل ذلك وأكثر وهذا يتضح بالقول ” يلعبون ” ثم ” علبتي المتسخة ” ..

أجرى بعض علماء النفس تجربة علمية على خمسون شخصاً لأجل فهم طبيعة الإشاعة وكيفية انتشارها، فعرضوا فيلما قصيراً على النصف منهم ثم جعلوهم يروون قصة الفيلم على النصف الآخر بطريقة انفرادية ثم طلبوا من النصف الذي لم يشاهد الفيلم يروي قصة الفيلم الذي سمعها ممن رأوه، وكانت النتيجة مخيفة حقاً ، حيث كان حديث الأشخاص مخالفا جدا لمحتوى الفيلم ولا يمت إليه بصلة وهكذا يتداول الناس الأخبار وينقلونها بإضافات من خيالهم الذي يستعينون به في حالة نسيان ما سمعوه، وهكذا تتناقل الإشاعات والأخبار بين الناس..

ثمة تشبيهان بليغان في النص  وهما مبعث إعجابي بالنص بأكمله صراحةً ومبعث قراءتي له أحدهما ” يأكلن ما فيها / بملعقة السخرية … ” والآخر الذي تنتهي به القصيدة : ” شكرا لك / فقد علمتني كيف ادفن السر في الريح….”

لكن لماذا التشبيه …!؟

سؤال لا يُجاب عنه إلا بسؤال آخر : لماذا الحب ؟ لماذا الإنسانية ؟ لماذا المجتمع ؟ ولماذا تنتظم الأكوان وتتحرك وتسير إلى غاية ؟

وهنا يحين الجواب : إن طلب التجمع أصيل في أعماق كل موجود ، فهو عنوان على الوحدة ، وعلى وجود المتنوع من أبناء الأسرة الواحدة ، وعلى رجوع الذرية إلى أمها الكبرى ” الأرض ” …

 

 

أخبار ذات صله